سلسلة المصطلحات المقاصدية (9)

#سلسلة المصطلحات المقاصدية (9)

#إخراج_المكلف_عن_داعية_هواه

استعمل الامام الشاطبي هذا المصطلح وبينه وجلاه في النوع الرابع من أقسام مقاصد الشارع؛ حيث قسم أبو إسحاق المقاصد إلى قسمين؛ قصد الشارع وقصد المكلف. وقسم قصد الشارع إلى أربعة أنواع، النوع الأول: قصد الشارع في وضع الشريعة، والثاني: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام، والثالث: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها، والرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة. وضمن هذا النوع يندرج مقصد إخراج المكلف عن داعية هواه.

#إخراج_المكلف_عن_داعية_هواه_في_اللغة

الإخراج لغة: من أخرج يخرج، ويدل أصل الكلمة على نقيض الدخول، لكن الإخراج يختلف عن الخروج، لأنه قد يكون بقوة، كأنه بفعل فاعل، بخلاف الخروج.

والمكلف لغة: من كلف يكلف تكليفا، وكلفه أي أمره بما يشق عليه. وتكلفت الشيء تجشمته. والكلفة ما تتكلفه من نائبة أو حق. ويقال حملت الشيء تكلفة، إذا لم تطقه إلا تكلفا. وتكلف الشيء: ما يفعله الانسان بإظهار كلف مع مشقة تناله في تعاطيه، وصارت الكلفة في التعارف اسما للمشقة.ويرجع أصل كلمة داعية إلى معنى النداء، ومنه دعوت زيدا أي ناديته وطلبت إقباله.

والهوى مصدر هوى ومعناه إرادة النفس، قال الأزهري محبة الإنسان للشيء وغلبته على قلبه، وهوت الطعنة: فتحت فاها تهوي، وهو من الهواء: الخالي، ومنه الهوى أي هوى النفس، فمن المعنيين جميعا؛ أي أنه خال من كل خير، ويهوي صاحبه فيما لا ينبغي.

#إخراج_المكلف_عن_داعية_هواه_في_القرآن_والسنة

وردت كلمة “إخراج” في موضع واحد من القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم ) سورة البقرة: 240. والمقصود بالإخراج هنا هو الإكراه على الخروج وهو عكس الادخال.

كما نجد مشتقات كلمة خرج في مواضيع كثيرة من الحديث النبوي؛ فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة”.

ووردت مادة “كلف” ثماني مرات في القرآن الكريم، منها قوله تعالى ( ولا تكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهو لا يظلمون ). المؤمنون: 62. وقوله سبحانه ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ). ص: 86.

كما جاءت مشتقاتها في الحديث منها ما روي عن يعلى بن مرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ” أيما رجل ظلم شبرا من الأرض، كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يطوقه إلى يوم القيامة حتى يقضي بين الناس”.

ومن موارد مشتقات داعية في القرآن قوله تعالى ( يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له ). طه: 108. وقوله تعالى ( فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر ). القمر: 6.

وجاء في الحديث قوله  ﷺ  ( ألا إن ربي داعي وإنه سائلي: “هل بلغت عباده؟”) ومن موارد كلمة “الهوى” في القرآن قوله سبحانه: (ولا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ). النساء: 135. ( ولاتتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله). ص: 26. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله ).

#إخراج_المكلف_عن_داعية_هواه_في_الاصلاح_المقاصدي

أفرد أبو اسحاق النوع الرابع لبحث هذا المقصد قال: ” المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عند الله اختيارا، كما هو عبد الله الضرر).

وبسط الشاطبي مجموعة من الدلة على هذا المقصد، فجعل أول الأدلة ” النص الصريح الدال على أن العباد خلقوا للتعبد لله، ودخول تحت الأمر ونهيه، كقوله تعالى: ( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون). الذاريات: 56-57)، وقوله جل جلاله: ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك ). طه: 132. وقوله سبحانه : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون). البقرة: 21).. إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على الإطلاق، وبتفاصيلها على العموم، فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال، والانقياد إلى أحكامه على كل حال، وهو معنى التعبد لله”.

أما الدليل الثاني الذي قدمه الشاطبي على هذا المقصد فهو ( ما دل على الذم مخالفة هذا المقصد من النهي أو لا عن مخالفة أمر الله، وذم من أعرض عن الله، وإيعاده بالعذاب العادل من العقوبات الخاصة بكل صنف من اصناف المخالفات، والعذاب الآجل في الدار الآخرة، وأصل ذلك اتباع الهوى والانقياد إلى طاعة الاغراض العاجلة، والشهوات الزائلة، فقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق، وعده قسيما له، كما في قوله تعالى: ( يادوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ): ص: 26)، وقال الله تعالى: (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى) النازعات: 37-39).

 وقال في قسيمه: ( واما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) النازعات: 40-41)، وبعد أن ذكر الشاطبي الآيات التي تذم الهوى قال: ( وتأمل، فكل موضوع ذكر الله تعالى فيه الهوى، فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه، وقد روى هذا المعنى عن ابن عباس، أنه قال: ( ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه ). فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى ).

أما الثالث ما استدل به الامام الشاطبي على هذا المقصد قيتمثل في ( ما أعلم بالتجارة والعادات من المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض؛ لما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك، الذي هو مضاد لتلك المصالح، وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة، وذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهوته، وصار حيث صارت به، حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها، أو كانت له شريعة درست، كانوا يقتضون المصالح الدنيوية لكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي، وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم، واطرادا العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا، وهي التي يسمونها السياسة المدنية، فهذا الأمر قد توادر النقل والعقل على صحته في الجملة، وهو أظهر من أن يستدل عليه ).

فمقصد إخراج المكلف عن داعية هواه معناه: أن يوافق قصد المكلف قصد الشارع ولايناقضه، وأن يمتثل لأحكام الشريعة طواعية واختيارا، ولو كانت على خلاف ما يهوى ويشتهي.

من كتاب: معجم المصطلحات المقاصدية ص ( 58-62).

Share:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn