#الأحكام_المعقولة_المعنى (7)
قرر المقري في (قواعده) أن ( الأصل في أحكام الشرع المعقولية لا التعبد، وجزم ابن عاشور بذلك حين قال: لنا اليقين بأن أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد الشارع، وهي حِكم ومصالح ومنافع. ولذلك كان الواجب على علمائها تعرف علل التشريع ومقاصد ظاهرها وخفيها).
وقد سبق بيان معنى (الأحكام)، وبقي بيان بقية المصطلح إفرادا وتركيبا، فما معنى (الأحكام المعقولة المعنى).
#معقول_المعنى_في_اللغة
المعقول مصدر عقَلَ واعتبره سيبويه صفة. ويدل العقل في اللسان العربي على معاني متعددة؛ منها ما يدل على حُبسةٍ في الشيء او مايقارب الحبسة. من ذلك العقل، وهو الحابس عن ذميم القول الفعل. وقال الخليل: العقل: نقيض الجهل، وقيل العقل النُهي وهو ضد الحمق، وجمعه عقول. وقال ابن الأنباري: رجل عاقل وهو الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقلتُ البعير إذا جمعت قوائمه، وقيل: العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، أخذ من قولهم قد اعتقل لسانه إذا حبس ومنع الكلام. والمعقول: ما تعقلة بقلبك. والعقل: التثبت في الأمور. والعقل: القلب، والقلب: العقل، وسمي العقل عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك اي: يحبسه، وقيل: العقل هو التمييز الذي به يتميز الإنسان من سائر الحيوان، وعقل الشيء يعقله عقلا أي فهمه.
والمعنى لغةً من عنيت أعني، وتدل مادة الكلمة، كما قال ابن فارس، على ثلاثه أصول دلالية؛ الأول القصد للشيء بانكماش فيه وحرص عليه، والثاني الخضوع والذل، والثالث ظهور شيء وبروزه.
وعنيت القول كذا: أردت، ومعنى كل كلام ومعناته ومعنيته: مقصده. ومن تعني بقولك أي من تقصده، وعناني أمرك أي قصدني؛ كما أن المعنى هو مايُشغل، يقال هذا الامر لايعنيني أي لا يشغلني ولا يُهمني. كما أن المعنى مرتبط بالتعب، يقال عانى الشيء قاساه. وروى الازهري عن أحمد بن يحيى قال: المعنى والتفسيرُ والتأويل واحد.
#معقول_المعنى_في_القرآن_والسنة
ورد فعل (عقل) في تسع وتسعين موضعا من القرآن الكريم؛ وتدل هذاه الموارد في مجملها على الفهم والتفكر؛ منها قوله سبحانه: (أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون) يوسف 2)، وقوله تعالى، (ومن نعمّره ننكّسه في الخلق أفلايعقلون) يونس68)، وقوله جل جلاله: (وتلك الأمثال نضربها للناسِ وما يعقلها إلا العالمون) العنكبوت:43).
ومن موارد (( عقل)) في السنة ماروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: (( إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رِجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرِب له مثلاً، فقال: اسمع سَمِعَت أذَنُك واعقِل عَقَل قلبُك، إنما مثلُك ومثلُ أمَّتِك كمثل ملِكِ اتّخذ داراً ثم بنى فيها بيتاً ثم جعل فيها مائدة ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه، فالله هو الملِك، والدار الإسلام، والبيت الجّنة، وأنت يامحمد رسولُ، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لاعقَل كالتدبير، ولاورع كالكفّ، ولاحسب كحُسن الخُلق)).
ومن مواردها في الحديث ماروي عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سألت إبن عباس رضي الله عنه : مامعنى قوله: لايبيعنّ حاضر لباد)؟ فقال: لايكن له سمسارا. والمعنى المقصود هنا التفسير، والله أعلم.
#الاحكام_المعقولة_المعنى_في_الاصطلاح_المقاصدي
يعد المعنى من المصطلحات التي استعملت مبكرا في الفكر الاصولي؛ ويدل على معانٍ منها العلة والمقصد؛ فقد قال الإمام الشافعي في رسالته: ( أن يكون الله أو رسوله حرم الشيء منصوصا أو أحله لمعنى، فإذا وجدنا ما في مثل ذلك المعنى فيما لم ينص فيه بعينة كتاب ولاسنة: أحللناه أو حرمناه، لانه في معنى الحلال والحرام))، وقال ابن القيم: ((فالاعتبار في الجمع والفرق إنما هو بالمعاني التي لأجلها شرعت تلك الأحكام وجودا وعدما)).
وفسر الإمام العز بن عبد السلام المعقولية بجلب المصلحة ودرء المفسدة فقال: ((ماظهر لنا أنه جالب لمصلحة، أو دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمصلحة. ويعبر عنه بأنه معقول المعنى)).
ومعقولية الأحكام الشرعية إما كلية عامة، وإما جزئية تفصيلية؛ فأحكام الشريعة معقولة من حيث الأصل والجملة، وقد قرر الإمام الجويني أن (ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلا ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة، وهذا ينذر تصويره جدا فإنه إن امتنع استنباط معنى جزئي فلا يمتنع تخيله كليا).
ومنه، فإن الأحكام العبادية معقولة المعنى في الجملة، وإن لم تعقل بعض تفاصيلها؛ قال الفخر الرازي: (( اعلم أن تكليف الشرع في العبادات قسمان؛ منها مايكون أصله معقولا إلا أن تفاصيله لاتكون معقولة؛ مثل الصلاة فإن أصلها معقول، وهو تعظيم الله، أما كيفية الصلاة فغير معقولة، وكذا الزكاة أصلها دفع حاجة الفقير، وكيفيتها غير معقولة، والصوم أصله معقول، وهو قهر النفس، وكيفيته غير معقولة)).
ويتبين من كلام الإمام الرازي أن أصول العبادات معقولة المعنى، إلاأن معقوليتها كلية لاجزئية، وجُملية لا تفصيلية.
ومن فوائد المعقولية استمالة القلوب للمسارعة بالتصديق، وكما قال الإمام الغزالي إن(( معرفة باعث الشرع ومصلحة الحكم استمالة للقلوب إلى الطمأنينة والقول بالطبع والمسارعة إلى التصديق؛ فإن النفوس إلى قبول الاحكام المعقولة الجارية على ذوق المصالح أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد، ولمثل هذا الغرض استحب الوعظ وذكر محاسن الشريعة ولطائف معانيها، وكون المصلحة مطابقة للنص وعلى قدر حذقه يزيدها حسنا وتأكيدا)).
ومن فوائدها كذلك إجراء القياس؛ قال السرخسي: (( إنما نجوز استعمال الرأي عند معرفة معاني النصوص، وإنما يكون هذا فيما يكون معقول المعنى، فأما فيما لا يعقل المعنى فيه فنحن لانجوز إعمال الرأي لتعدية الحكم إلى مالا نص فيه، إذلا تعديَة بدون المعقولية، وقال الجويني إن ((مايثبت برسم الشارع ولم يكن معقول المعنى فلا يسوغ القياس فيه.
ومن المعاصرين يبين عند الوهاب خلاّف معني الأحكام المعقولة المعنى بقوله ((أحكام لم يستأثر الله بعلم عللها، بل أرشد العقول إلى عللها بنصوص أو بدلائل أخرى أقامها للاهتداء بها، وهذه تسمى: الأحكام المعقولة المعنى، وهذه هي التي يمكن أن تُعدَّى من الأصل إلى غيره بواسطة القياس؛ سواء أكانت أحكاما مبتدأة أي ليست استثناء من أحكام كلية، كتحريم شرب الخمر الذي عدَّي بالقياس إلى بيع الذرة والأرز، أم كانت أحكام مستثناة من أحكام كلية كالترخيص في العرايا استثناء من بيع الجنس متفاضلا، الذي عدي بالقياس إلى بيع العنب على الكرم بالزبيب. وبقاء الصوم مع أكل الصائم ناسيا استثناء من فساد الصوم بوصول غذاء إلى معدة الصائم الذي عدي بالقياس إلى أكل الصائم خطأ أو مكرها. وإلى بقاء الصلاة مع تكلم المصلي ناسيا، فالشرط لصحة تعدية حكم الأصل أن يكون معقول المعنى بلافرق بين كونه حكما مبتدأ ليس استثناء من كونه حكم كلي وكونه حكما استثنائيا من حكم كلي))، وإن كان لا يستلزم من الحكم المعقول المعنى إجزاء القياس، وإنما يجزي القياس في الاحكام المعللة.
فالمقصود بـ ((الأحكام المعقولة المعنى)): الأحكام التي فهمنا حكمتها وفائدتها، أي ما تتضمنة من جلب للمصالح ودرء للمفاسد.