العيد درس في التغيير

قال تعالى: ((لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)) الرعد.

ذِكْرُه جل جلاله للتغيير بين أمره ومشيئته وحفظه وإرادته ليس صدفة، وإنما هو إشارة واضحة ودلالة ناصحة إلى أن التغيير من أهم وسائل الاستمرار، وقد ثبت طبا أن تغيُّر خلايا الجسم هو مصدر بقاء الإنسان واستمراره.
إن العيد ليس مجرد شعيرة دينية ولا مناسبة اجتماعية ولا حولية روتينية، وإنما هو درس عظيم وعلم قويم وتنبيه جسيم على أن الروتين والرتابة قاتل للذات والصفات، والعرض والجوهر، والرسم والوسم، والشخص والشيم، والأقنوم والقيم، وانطلاقا من هذا كله – والله أعلم – جعل العيد معمورا بظواهر التغيير، ومغمورا بشواهد التعبير، كأن لسان حال العيدين يقول: خُلِقت أيها الإنسان لتعمُر، وليس لتعبُر، فالعمارة مهنة وعمل، والعبور جِبِلَّة وأجل، قال تعالى: “واستعمركم فيها” هود، والعمارة تتطلب الجد والاجتهاد، والكفاح في سبيل تحقيق الرشاد، وتحجيم الفساد، أما العبور فلا يستدعي السعي والحراك: “ولو كنتم في بروج مشيدة” النساء، ولكن العبور إذا اقترن بالشرف والقيم صار منوطا بالعمل “كالشهادة في سبيل الله”.
وضع الشارع جملة من الأحكام، وسن حزمة من الآداب في الأعياد، كلها رسائل مشفرة للدعوة إلى التغيير يفوت فحواها كثيراً من فقهاء اللفظ وعلماء العبارة – نسأل الله أن يكرمنا بفهم الفحوى والمعنى والإشارة – لأن الشارع لم يصرح أبدا بهدف ولا غرض ولا قصد من هذه الظواهر أو تلك الأعمال، ومنها ما يلي:
أولا: لبس الجديد: وهو تغيير المظهر الذي يدركه البسطاء والعوام.
ثانيا: توقيت صلاة العيد: وهو شحذ الهمة وتحفيز الروح إلى ممارسة الفضائل في وقت غير معتاد لها.
ثالثا: الذهاب إلى المصلى بدلا من المسجد: وهو ترويح عن النفس بتحريرها عن الحيز المكاني لترتبط بالفضاء الرباني ثقة وحبا وكرما وإحسانا.
رابعا: تنويع القراءة في الصلاة (بسورتي قاف والقمر بدلا من الأعلى والغاشية): تنشيط الجوارح وترويض الروح وتشنيف الآذان بذكر الله تعالى بقوارع السور المكية الشديدة الوقع والنبر، ليذوب جليد الهوى أمام الفيض القرآني، في مشهد إيماني فذ يتكرر في السنة مرة أو مرتين.
خامسا: تقديم الصلاة على الخطبة: تهذيب لأهل التقاعص والقعود، وتحريك لأهل التكاسل والجمود على أن التكبير اليوم تعقبه الصلاة، وكل شيء بعد الصلاة حتى الوعظ الذي دأب الناس عليه في الجُمَع أن يكون قبل الصلاة.
سادسا: تكبيرات الصلاة: على اختلاف المذاهب الفقهية بين مقيد بعدد وبين مطلق لها، تكرار تكبيرة الإحرام، وتكبيرة القيام للركعة الثانية، تغيير جذري للكيفية المعهودة عند الصغار والعوام، ليلتزم غير الواثقين بأنفسهم علما وتطبيقا بجماعة وإمام، في إشارة لطيفة إلى ضرورة وجود إمام وقائد للأمة، لأنه لا شيء يبقى على حال، ورياح التغيير تحتاج إلى قبطان يبحر بالسفينة متمرس محترف، لا يهوله الأمواج.
سابعا: مخالفة الطريق ذهابا وإيابا: وهو تغيير السلوك والتفكير والرؤية، ومفهوم ذلك: أن لكل أمر مسلكين وأن لكل منزل طريقين، وأن لكل قضية وجهين على الأقل، فلا يمنعنّك سوء تفكيرك أو معتاد سلوكك، أو ثابت رؤيتك عن تجربة مسالك وطرق وأوجه أخرى.
ثامنا: تمييز العيدين بالأكل قبل الصلاة في عيد الفطر، والإمساك في يوم الأضحى: حتى بين العيدين نفسيهما لم يشأ أن يكون تطابق يؤدي إلى التشابه لأن العيد درس للتغيير، ففي الفطر تأكل فطورك قبل الصلاة، وفي الأضحى تأكله بعد الصلاة.
تاسعا: بين زكاة الفطر وذبح الأضاحي: ويتبادر إلى الذهن أن الغرض هو إدخال السرور على الفقراء والمحتاجين، ولكن بأقل تأمل وبأدنى تمعن ندرك أن الأمر أعظم من ذلك، فلو كان الغرض إدخال السرور على مَن ذُكر كما ذُكر، لكان كافيا تشريع الزكاة في العيدين أو الأضحية فيهما، فلما نوَّعهما وميّز بينهما في المفروض ظهر اختلاف الغرض، والله أعلم، ولكن الظاهر الذي لا مرية فيه أن ذلك درس في التغيير.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر؛؛؛ الله كبيرا والحمدلله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا.

هذا ما خطر وحضر، سطّرته قبل أن يتبخّر، وجمعته قبل أن يتبدد ((إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)).

د. الخليفة.

Share:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn