الإشارة إلى ما بين كتابي: الموافقات والمقدمة من الوصل والاتصال في المرحلة والموضوع والمقصد والمنهج:
كتاب ( الموافقات ) للإمام الشاطبي في علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية في أربعة أجزاء ، و كتاب ( المقدمة) لابن خلدون في علم الاجتماع والتاريخ ، وهو مجلد واحد عبارة عن مقدمة لكتابه الكبير في التاريخ المسمى ( العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ). وقد اشتهرت (المقدمة) بصورة مستقلةوتداولها الناس أكثر من الكتاب الأصل…
وقد كان الشيخ ابن عاشور يدرس الكتابين جنبا إلى جنب لطلابه في جامع الزيتونة. وهو ما يشي بأهمية وصل العلوم الاجتماعية بالعلوم الشرعية عموما ، وقوة العلاقة بين الكتابين في المرحلة والموضوعات والمنهج ، وفيما يلي نقاط تلقي بعض الضوء على ما بين الكتابين من الوصل والاتصال في الجوانب المشار إليها أعلاه مستخلصة من تحقيق الدكتور محمد الطاهر الميساوي لكتاب ( مقاصد الشريعة الإسلامية) لابن عاشور :
١. تعاصر الرجلان وعاشا في القرن الثامن الهجري ؛ إذ توفي الشاطبي سنة ٧٩٠ هجرية ، وامتد بابن خلدون العمر إلى مطلع القرن التاسع حيث توفي سنة ٨٠٨ للهجرة.
٢. شهد الرجلان الشاطبي وابن خلدون واحدة من أشد مراحل التاريخ الإسلامي في المغرب والأندلس اضطرابا وتراجعا على مستوى الاجتماع السياسي ،وجمودا وركودا على المستوى العلمي والفكري.
٣. بالرغم من اختلاف مجال البحث بين ( الموافقات ) و( المقدمة) ، فإن الصلة المعرفية والمنهجية بينهما وطيدة ، بحيث إن قراءة أحدهما تضيء كثيرا من قضايا الآخر ومسائله وغاياته . بل يمكن الزعم بأن هناك وحدة معرفية ومنهجية بين الكتابين.
٤. هدف الشاطبي في (الموافقات) ألى الكشف عن كليات الشريعة التي يحددها بالضروريات والحاجيات والتحسينيات ، فيقرر أنها وإن تفاوتت في المرتبة فقد استوت في أنها كليات معتبرة في كل ملة .
أما ابن خلدون فهو يؤكد – بعد أن يقرر أن المقاصد الشرعية في الأحكام كلها مبنية على المحافظة على العمران – أن اجتماع البشر في أجيالهم المختلفة إنما هو للتعاون على تحصيل معاشهم بالابتداء بما هو ضروري وبسيط قبل الحاجي والكمالي .
ومع اختلاف مراد الرجلين بهذه المصطلحات : الضروري والحاجي والتحسيني أو التكملي ، فإن الذي نود إبرازه هنا هو ذلك الاتفاق في الغاية التي يرمي إليها كل منهما إلى تحقيقها وفي المنزع المنهجي الذي يصدر عنه ، وهما وجها اللقاء أو التقاطع بين البحث في الشريعة من خلال النظر في مقاصدها وكلياتها والبحث في الاجتماع الإنساني من خلال السعي لاكتشاف طبائعه والسننالعامة المتحكمة فيه.
٥. فالشاطبي قد نظر في التراث الفقهي والأصولي المتراكم بين يديه فهالته جزئياته الطافحة ، وفروعه المتكاثرة ، وظنياته المتناسخة ، فرام البحث عن “علم أصيل ، راسخ الأساس ، ثابت الأركان” ، تستند إليه الفروع ، وتنتظم على أساسه الجزئيات ، وتتراجح وفقا له الظنيات.
أما ابن خلدون فما كانت غايته وهو ينظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران ، إلا تمييز “ةما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه،وما يكون عارضا لا يعتد به ، وما لا يمكن أن يعرض له ” ، ليكون ذلك “قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل فيه للشك فيه”. ومن ثم كان لابد من منهج في دراسة التاريخ والمجتمع تحكم فيه “أصول العادات ، وقواعد السياسة ، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الأنساني ، وسبر أخبارهما بمعيار الحكمة ، والوقوف على طبائع الكأئنات” .
٦. وهكذا فنحن أمام محاولة للتوصل إلى الأصول العامة والكليات الثابتة المطردة التي تكون معيارا لغيرها . فالشاطبي يريد أن يتجاوز بهذه الأصول والكليات حالة التشتت والجزئية في النظر إلى نصوص الشريعة وأحكامها التي آل إليها أمر الفقهاء غفلة منهم عن المنطق العام الذي ينتظمها والمقاصد الكلية المنوطة بها .
أما ابن خلدون فيريد أن يضع بها حدا لذهول المؤرخين وغفلتهم عن أسباب العمران وعلله وقوانينه . فكأنما الرجلان قد شعرا بالحاجة الملحة إلى رؤية كلية شاملة للشريعة والاجتماع الإنساني ، رؤية ندرك بها المنطق الذي تنتظم بحسبه نصوص الأولى وأحكامها ، ونمسك عبرها بالقوانين التي يتحرك بمقتضاها الثاني وتجري عليها وقائعه ؛ ذلك أنه إذا ما ستقام فهم الشريعة بوصفها نسقا كليا بحيث تتكامل نصوصها وتتواشج أحكامها وتتراتب مقاصدها ، وإذا ما استقام لنا النظر إلى الاجتماع البشري على أنه ذو طبائع وأصول وسنن تتحدد بحسبها مجرياته وتنتظم بها أموره .
إذا ما تم لنا ذلك تكونت لدينا بصيرة في كيفية تنزيل أحكام الشريعة على وقائع الاجتماع وتكييف هذه وفقا لتلك . وبعبارة أخرى : تمكننا تلك البصيرة من كيفية تفعيل ما هو حاصل بمقتضى الواقع ، والتحرك منه وبه نحو ما هو واجب بمقتضى الشرع .