رمضان شهر الروح والتحرر.

يرتبط ذكر شهر رمضان في اذهان كثير من الناس بالماديات من قبيل الصوم عن الطعام والشراب، ولكن عند التامل في الحكمة من هذه العبادة ندرك ان الصوم عبادة روحية قبل كل شيي. فنزول القران في هذا الشهر يعد في حد ذاته تأكيدا لمغزاه الروحي، فالقران روح كما فال الله في كتابه ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ) نزل به الروح الأمين شفاء للقلوب والأرواح ، فانه روح نزل به روح الى روح عباده في شهر الروح والرحمة. ولم يكن ارتباط القران بهذا الشهر في نزوله فحسب بل كان الرسول عليه الصلاة والسلام يراجع القران مع جبريل كل سنة في شهر رمضان. وهذا كله ان دل على شيي فانما يدل على الارتباط الوثيق بين القران وبين هذا الشهر نزولا ومراجعة.

فكما ان قراءة القران تسمو بالروح الإنساني الى فضاءات روحية عليا فكذلك صيام رمضان يقمع الشهوات الجسدية بالامتناع عن حاجات الجسد ويقوى الروح فيخرج الانسان في هذا الشهر عن عالمه المادي الذي ركن اليه في شهور السنة كلها الى عالم روحاني تتطهر فيه نفسه من أردان الخضوع لاكراهات البدن والعبودية لحاجات الجسد بحيث يتحرر الانسان من ذلك كله ويتخفف من ثقل الانجذاب الى عنصره الأرضي لكى يرتقى سابحا في سبحات السماء وتطير روحه في الأقطار حيث شاءت.

هذا التحرر من ربق العبودية المادية ليس شييا سهلا ينال به عن الامتناع عن الطعام والشراب، وانما لا بد من جهاد مع النفس وأهواءها وشهواتها وقراءة القران وذكر الله وكل ما يعينك على قمع خطوط النفس الانسانية، وهي كما ترى معركة مع ذاتك ونفسك التى بين جنبيك. واسوا معركة هي معركتك مع نفسك، فنفسك الخصم وانت الحكم، وقلّ من خرج منتصرا في معركة نفسه الا من أعطاه الله عزيمة قوية وايمانا راسخا.

فاذا كان الانسان يمتنع في الصوم عن الطعام والشراب فقط ولم يفض به صومه الى شيي من التحررر من أغلال النفس وشهواتها الاخرى فان ذلك يدل على سوء فهم في حكمة تشريع هذه العبادة. ويمكن ان ندرك من ذلك مغزى قوله عليه الصلاة والسلام (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) فلا يكون للصوم عن الطعام اي معنى اذا لم يمتنع الانسان عن شهوات النفس الاخرى من قول او عمل.

تلك الأهداف السامية للصيام من التحرر من العبودية لنزوات الجسد وأهواء النفس والجهاد مع النفس لتقوية النفخة الروحية في الانسان حتى تنطلق حرة غير مقيدة قد تضررت بسوء فهم ادى الى سوء تطبيق قد افرغ هذه العبادة من مضمونها الروحي السامي وحولها الى مجرد عادة اجتماعية للامتناع عن الطعام والشراب في ساعات معدودة من اليوم ثم الإفطار في ساعات اخرى معدودة من الليل، والإفطار هنا لا يعني افطار الصايم فقط وانما يعنى الأكل الى حد التخمة للتعويض عما فات الصايم من الأكل والشرب في ساعات الصوم، فيخرج الانسان من ذلك كله اضخم جسما وأعظم بطنا وأثقل نفسا مما كان عليه فبل هذا الشهر فلم يزدد صحة في الجسم ولا تهذيبا في النفس ولا ترقية في الروح.

فطوبى لمن خفف من وزنه في هذا الشهر حتى تخف روحه وتحلق في آفاق السماء، وطوبى لمن قمع شهوات نفسه حتى تنطلق روحه وتنعتق من إكراهات جسده، وطوبى لمن تحرر من العبودية للنفس الى كمال العبودية لله، فالعبودية الخالصة لله حرية خالصة محضة، وليس هناك عبودية تتضمن معنى الحرية الا عبودية الله سبحانه وتعالى، فحرية الانسان في عبوديته لله، وعبوديته لله حريته من العبودية لغيره.

عبدالواحد عبدالله شافعي.

Share:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn