سلسلة المصطلحات المقاصدية
الاجتهاد المقاصدي
ظهر مصطلح (( الاجتهاد المقاصدي )) مع الصحوة المقاصدية المعاصرة، وتتجلى أهميته في توجيه الفهم وتنزيل المقاصد وهو – حسب ذ. أحمد الريسوني – (( أهم ما في نظرية المقاصد، وهي الغاية القصوى لها، والفائدة الكبرى منها، وأعني بذلك أثرها في فهم الشريعة والاجتهاد في أحكامها، والاهتداء بهديها، والسير في ضوء مقاصدها)).
وقد تقرر هذا الربط بين المقاصد والاجتهاد عند أبي إسحاق الشاطبي، الذي اعتبر أن أول شروط الاجتهاد ((فهم مقاصد الشريعة على كمالها)).
وقد كثر رواج المصطلح منذ ظهور كتاب (( الاجتهاد المقاصدي )) للأستاذ نور الدين الخادمي .
ولما كان مصطلح المقاصد قد أفرد بالدراسة في موضعة من هذا المعجم 3، فلنتجه الآن إلى النظر في معنى الاجتهاد، ثم الاجتهاد المقاصدي.
الاجتهاد في اللغة
الاجتهاد من الجَهد ويراد به الطاقة أو الغاية؛ قال الجوهري: الجَهد والجُهد:
الطاقة،والجَهد: المشقة، يقال: جَهَدَ دابته وأجهدها، إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها، وجهد الرجل في كذا، أي جدّ فيه وبالغ. وجهدت اللبن فهو مجهود، أي أخرجت زُبده كله. وجهدت الطعام: أشتهيته. وجُهِد الرجل فهو مجهود، من الشقة يقال: أصابهم قحوط من المطر فجُهجوا جَهدا شديدا. وجهِد عيشهم بالكسر، أي نكد واشتج، والجَهادُ بالفتح: الأرض الصلبة، وجاهد في سبيل الله مجاهدة وجهادا. والاجتهاد والتجاهد: بذل الوُسع والمجهود.
وقال الازهري: الجهد بلوغك غاية الأمر الذي لاتألو على الجَهد فيه. ويرى ابن السكيت أن الجهد هو الغاية، قال الفراء: بلغت به الجهد أي الغايه. ويقال أجهد لك الطريق وأجهد لك الحق أي برز وظهر ووضح.
ويفرق بين الجَهد والجُهد بأن الأول هو الطاقه والثاني هوالمشقة، والأول أعظم، (( فإن الضمّ أقوى من الفتح، وكلما كانت الحروف أو الحركات أقوى كان المعنى أقوى )).
انطلاقا مما سبق يمكن حصر دلالات ( ج ه د) في بذل الوسع وما يتصل به من المبالغة والجد والإخراج والمشقة، وتعتبر الدلالة الأولى مركز الدلالات وقطب الرحى الذي يؤل إليه أغلب الدلالات المذكور، فالإخراج في معنى الجهد، وسميت الأرض الصلبة الجَهاد، لما يقع فيها من المشقة اثناء عملية الحرب. ويمكن اعتبار الظهور والوضوح الغاية من بذل الجهد.
الاجتهاد في القرآن والسنة
ذكرت مشتقات ((جهد)) عشرات المرات في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه): العنكبوت:6 (والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبُلنا وإن الله لمع المحسنين): العنكبوت: 69 (أم حسبتم أن تدحلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصّابرين) آل عمران: 142
ومن موارد اللفظ في السنة قوله صلى الله عليه وسلم (( أذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر). ويقرب معنى الاجتهاد المذكور في الحديث من المعنى الاصطلاحي للاجتهاد، كما يعد هذا الحديث أحد ركائز القول بالاجتهاد.
وتجدر الإشارة إلى أنه وردت في السنة معان أخرى تشترك مع الدلالات اللغوية السافلة الذّكر، منها ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (( تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)).
وجاء في حديث أم معبد: “شاةُ خلّفها الجهد عن الغنم”، (قال ابن الأثير: قدتكرر لفط الجَهد والجُهد في الحديث، وهو بالفتحة المشقة، وقيل المبالغة والغاية، وبالضم الوسع والطاقة، وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة، فأما المشقة والغاية فالفتح لاغير، ويريد به في حديث أم معبد في الشاة الهزال، ومن المضموم حديث الصدقة: أي الصدقة أفضل ؟ قال: جُهد المقل، أي قدر ما يحتمله حال القليل المال).
الاجتهاد المقاصدي في الاصطلاح المقاصدي
فصّل الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في مناحي احتياج الفقه إلى معرفة مقاصد الشريعة ولخصها في خمسة أنجاء، وهي: فهم أقوالها، والبحث عما يعارض الادلة التي لاحت للمجتهد، والتي استكمل إعمال نظره في استفادة مدلولاتها، وقياس مالم يرد حكم في أقوال الشارع على حكم ما ورد حُكمه فيه بعد أن يعرف علل التشريعات الثابتة، وإعطاء حكم لفعل او حادث حدث للناس لايعرف حكمه فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة، ولاله نظير يقاس عليه، ثم تلقّي بعض أحكام الشريعة الثابتة عنده تلقي من لم يعرف علل أحكامها ولا حكمة الشريعة في تشريعها. فهو يتهم نفسه بالقصور عن إدراك حكمة الشارع منها، ويستضعف عمله في جنب سعة الشريعة، فيسمي هذا النوع بالتعبدي).
وتتميما لهذا النظر ومجالاته، ذكر الشيخ عبدالله بن بيه يُستنجد بالمقاصد في أكثر من عشرين منحى من مسائل الأصول.
ومن أشهر من أطلق المصطلح د. نور الدين الخادمي،وعرّفه بقوله: (( العمل بمقاصد الشريعة، والالتفات إليها، والاعتداد بها في عملية الاجتهاد الفقهي )).
ونلحظ أن د. الخادمي قصر الاجتهاد المقاصدي على الاجتهاد الفقهي، لكن نجد إطلاقات أخرى تعمم المفهوم على كل المجالات نحو إطلاق د. أحمد الريسوني الذي رأى أن الاجتهاد المقاصدي (( مؤسّس على استحضار المقاصد واعتبارها في كل ما يقدره أو يفسره، ليس في مجال الشريعة وحدها، بل في كل المجالات العلمية والعملية).
ووفق هذا المدلول الموسع استعملة د. جاسر عودة؛ إذعرفه بقوله: ((الاجتهاد المقاصدي هو إعمال المقاصد منهجا نظريا في تناول الموضوع أيا كان، ومنطقا في قلب عملية التفكير فيه، ومعيار لسلامة النظر الجديد من عدمه)).
وطُبّق الاجتهاد المقاصدي في المجالات التي لم يرد فيها نصّ، أو النوازل الجديدة المرتبطة بقضايا الأسرة أو المعاملات المالية والسياسة الشرعية والقضايا الطبية وغيرها. ومما يمكن التمثيل به مسألة ((نقل الدم علي سبيل التبرع من شخص صحيح إلى من يحتاجة لإجراء عملية جراحية أو تعويض الفقر الدموي أونحوه، فهو جائز ومرغب فيه لما فيه من التعاون على البر والتقوى، وإدامة المعروف والإحسان، وإسهاما في إنقاذ النفوس من الهلاك والموت بسبب الحوادث والأمراض، فهو بهذا محقق لمقصد حفظ النفوس، ومقصد حفظ الدين من ناحية تربية الناس على معاني التعاون والمواساة والتضحية ودرء الأنانية والجشع، وتحبيبهم في أحكام الله ورسوله الداعية إلى فعل المعروف وإدامته)).