سلسلة مقاصد الأسرة في الإسلام وأثرها في رعاية حقوق الإسان (1)

من كتاب: مقاصد الشريعة الإسلامية وأثرها في رعاية حقوق الإ نسان : دراسة تأصيلية مقارنة

د. محمد شيخ أحمد محمد (محمد حاج)

(1) مفهوم مقاصد الأسرة وتعدد المصطلحات

الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع الإنساني، وهي نواته وعماده، لأن الإنسان يولد فيها، وينشأ في أحضانها، ويترعرع في جنباتها، ويتطبع بطباعها، وتنغرس فيه بذور الخير والشر، أو الفضيلة والرذيلة، أو الاستقامة والانحراف، ثم يخرج إلى المجتمع متأثرًا بأسرته وتربيته الأولى.

وتشمل الأسرة الأبوين والأولاد والإخوة الذين ينضوون تحت اسم العائلة الصغرى، ثم تتوسع لتشمل الأقارب من جهتي الأب والأم، والجد والجدة.

وتكوين الأسرة في نظر الإسلام حصر بالزواج الذي يتحقق منه الإنجاب، ومن ثم حرّم الإسلام جميع العلاقات الواهية التي كانت منتشرة في الجـاهلية الأولـى، والتي بدأت تعود إلـى الظهور، مما يثبت الشرع والعقل والواقع والنتائج صحة النظرة الإسلامية وسلامتها. لذلك شرع الإسلام الزواج، وجعله سنة ومندوبًا للأفراد، وواجباً للأمة عامة، ونظم الشرع الحنيف شؤون الزواج، وخصّه بمجموعة كبيرة من الآيات والأحاديث، وأفرده الفقهاء في جميع المذاهب بأبواب مستقلة، ولعله أهم الأبواب وأوسعها بعد العبادات، مما لا مجال لعرضه مفصلاً، ويدرس اليوم في الأحوال الشخصية.

فمقاصد الأسرة إذن يقصد بها تلك الأهداف والغايات التي راعتها الشريعة الإسلامية في مؤسسة الأسرة، والتي تحققها الأحكام الشرعية الخاصة بتنظيم شبكة العلاقات الأسرية.

وقد تعددت العبارات والمصطلحات التي يستخدمها الأصوليون للتعبير عن المقاصد المتعلقة بحفظ الأسرة ورعايتها، فمنهم من عبَّر عنها بـ”حفظ النسل”، ومنهم من عبر عنها بـ “بحفظ النسب”، وبعضهم استعمل عبارات أخرى، مثل: “حفظ الأبضاع” أو “الفروج” أو “حفظ الأعراض” .

كما اختلفت آراؤهم فيما يعتبر من هذه المعاني مقصداً ضرورياً لحفظ الأسرة وما يعتبر منها في رتبة دون الضروري بما لا يسمح به المقام التفصيل فيه في هذا البحث.

ويلاحظ أن استعمال الأصوليين لهذه العبارات للدلالة على هذه المقاصد فيها نوع من السعة والمرونة الخالية من التقيُّد بعبارة دون أخرى، فغالباً ما تجد الواحد منهم يستخدم هذه العبارات كلِّها أو بعضها في مواضع مختلفة للتعبير عن المعنى نفسه، ولعل ترابط هذه المعاني في واقع الناس، وفي اهتمام الشرع أدى إلى اختلاف اصطلاحات العلماء للتعبير عن هذه المقاصد، فالبضع في اللغة هو الفرج، وهو محل الحرث، والنسل المطلوب شرعاً هو النسل المتولد من طريق شرعي صحيح يعرف به النسب، فلوجود هذه الأمور وتلازمها تساهل العلماء في إطلاق بعضها على بعض.

وقد اختلفت كذلك معالجات المعاصرين لتحديد المصطلح الأنسب للتعبير عن المقصد الضروري في مجال حفظ الأسرة، بناءً على اختلاف نظرتهم لاتساع المقصد وشموله لكل المعاني في مرتبة الضروريات، أو ضيقه عن ذلك.

فمنهم من اعتبر “حفظ النسل” المقصد الضروري في هذا المجال، وأما “حفظ النسب” و”العرض” فهما مقصدان حاجيان، ومن سائل تحقيق مقصد “حفظ النسل”، كابن عاشور والريسوني ومحمد الزحيلي والكيلاني .

ومنهم من اعتبر المقصد الضروري في هذا المجال شاملاً لهذه المعاني الثلاثة (حفظ النسل والنسب والعرض)، ومن مجموعها يتركب المقصد الكلي الذي أقره الشرع في نصوصه وأحكامه، كما ذهب إليه نور الدين الخادمي.

وغير بعيد عن ذلك مال عبد المجيد النجَّار إلى توسعة مقصد حفظ النسل ليشمل جملة من المعاني، منها: استمرارية أجيال المجتمع بالإنجاب، وحفظ النسب، ورعاية الولد من قبل الأسرة والمجتمع.

وفي هذا الاتجاه ذهب جمال الدين عطية إلى اعتبار كل من: حفظ “النسل” و “النسب” وتنظيم العلاقة الجنسية (وهو جزء من معاني حفظ العرض) من مقاصد الشريعة فيما يخص الأسرة، في حين عدَّ “حفظ العرض” ـ بمفهوم أوسع من الجانب الجنسي ـ من مقاصد الشريعة فيما يخص الفرد.

والملاحظ أن هناك اتفاقاً على أن هذه المعاني كلها مقاصد للشارع في مجال الأسرة، وإنما تدور جُلُّ هذه النقاشات حول ما يمكن اعتباره من هذه المعاني داخلاً ضمن المقاصد الضرورية في هذا المجال، وبما أن تناولنا للموضوع في هذا البحث لا ينصب أساساً على تصنيف المقاصد إلى ضروري وغيره، وإنما ينصب على تحديد مقاصد الشريعة في هذا المجال على اختلاف درجاتها وتفاوت مراتبها، ثم بيان وسائل تحقيقها والمحافظة عليها، لتوظيفها ثالثاً في مجال رعاية حقوق الإنسان، فإن الذي يهمنا من هذه النقاشات هو القدر المتفق عليه، وهو أن هذه المعاني الثلاثة: حفظ النسل والنسب والعرض هي من مقاصد الشريعة في مجال الأسرة.

وانطلاقاً من هذه النقطة وسيراً على درب شيوخ المقاصد القدماء والمعاصرين: أمثال الإمام الغزالي، والإمام الشاطبي في تناولهما لمقاصد النكاح إجمالاً، والعلامة ابن عاشور في حديثه عن “مقاصد العائلة”، والدكتور جمال الدين عطية في رفع دائرة هذا المقصد شكلاً ومضموناً، شكلاً بالانتقال من دائرة المقصد الواحد ـ أياً كانت تسميته ـ إلى دائرة مقاصد الأسرة، ومضموناً بإضافة عدد من المقاصد إلى هذا المجال، والدكتور عبد المجيد النجار الذي خص بالموضوع كتيباً به فيه نقلة نوعية وإضافات معتبرة، اخترنا “المقاصد الأسرية” عنواناً لهذا الفصل، بدلاً من “حفظ النسل والعرض والنسب” ونحوها؛ لأنه أشمل معنى، وأوجز عبارة، وأوفى للمقصود.

Share:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn