من كتاب مقاصد الشر يعة الإسلامية وأثرها في رعاية حقوق الإنسان : دراسة تأصلية مقارنة ، د. محمد شيخ أحمد محمد “محمد حاج”. نشر مجمع الفقه الإسلامي في السودان ٢٠١٢م .
من أوائل من تناول مقاصد الأسرة في إطار الحديث عن مقاصد الشريعة في الأحكام من العلماء : الإمام الغزالي في “الإحياء”، و الإمام الشاطبي في “الموافقات”، ومن المعاصرين: الإمام ابن عاشور في “مقاصد الشريعة”، ومن بعده الدكتور جمال الدين في “تفعيل مقاصد الشريعة”، والدكتور عبد المجيد النجار في بحث له بعنوان “مقاصد الشريعة في أحكام الأسرة توجيها لأحكام الأسرة المسلمة في الغرب” وإليك نبذة لأهم المقاصد الأسرية التي توصل إليها هؤلاء العلماء في بحوثهم.
أولاً: الإمام الغزالي ومقاصد النكاح:
كان تناول الإمام الغزالي للموضوع في سياق رؤيته القائمة على إحياء علوم الدين بإظهار أسرار الأحكام ومقاصدها، في كتابه المعنون بذلك (إحياء علوم الدين) ففي كتاب آداب النكاح منه وهو الكتاب الثاني من ربع العادات تحدث عن فوائد النكاح، ولخصها في خمس فوائد هي:
[1] تحصيل الولد، واعتبره المقصد الأصلي الذي من أجله شرع النكاح. والمقصود به إبقاء النسل وأن لا يخلو العالم عن جنس الإنسان.. وبين أن في طلب الذرية قربة من أربعة أوجه، هي الأصل في الترغيب فيه عند الأمن من غوائل الشهوة، وهي:
الأول: موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان.
والثاني: طلب محبة رسول الله في تكثير من به مباهاته.
والثالث: طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده.
والرابع: طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله.
[2] التحصن عن الشيطان، وكسر التوقان، ودفع غوائل الشهوة، وغض البصر، وحفظ الفرج،. وقد سبقه إلى هذا شيخه الجويني، حيث قال: “إن النكاح شرع لتحصين الزوجين من فاحشة الزنا وغيره من المقاصد”.
[3] ترويح النفس وإيناسها بالمجالسة والنظر والملاعبة إراحة للقلب وتقوية له على العبادة، فإن النفس ملول وهي عن الحق نفور، لأنه على خلاف طبعها، فلو كلفت المداومة بالإكراه على ما يخالفها جمحت وثابت، وإذا روحت باللذات في بعض الأوقات قويت ونشطت، وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يزيل الكرب ويروح القليب.
[4] تفريغ القلب عن تدبير المنزل والتكفل بشغل الطبخ والكنس والفرش وتنظيف الأواني وتهيئة أسباب المعيشة، فإن الإنسان لو لم يكن له شهوة الوقاع لتعذر عليه العيش في منزله وحده، إذ لو تكفل بجميع أشغال المنزل لضاع أكثر أوقاته ولم يتفرغ للعلم والعمل، فالمرأة الصالحة المصلحة للمنزل عون على الدين بهذه الطريق، واختلال هذه الأسباب شواغل ومشوشات للقلب ومنغصات للعيش.
[5] مجاهدة النفس ورياضتها بالرعاية والولاية والقيام بحقوق الأهل والصبر على أخلاقهن واحتمال الأذى منهن والسعي في إصلاحهن وإرشادهن إلى طريق الدين والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهن والقيام بتربيته لأولاده.
وما ذكره الغزالي أشبه بالحكم والأسرار في أحكام النكاح (المقاصد الجزئية) منه إلى المقاصد العامة في مجال الأسرة، باستثناء المقصدين الأول والثاني، إلا أنه أصبح أصلاً لكل الذين طرقوا الموضوع بعده، وعلى رأسهم الشاطبي الذي لم يزد على ما ذكره الغزالي.
ثانياً: الشاطبي وصياغة مقاصد النكاح:
قال في الموافقات: “للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصد أصلية ومقاصد تابعة، مثال ذلك: النكاح، فإنه مشروع للتناسل على القصد الأول، ويليه طلب السكن والازدواج، والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية، ومن الاستمتاع بالحلال، والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن للنساء، والتجمل بمال المرأة أو قيامها عليه وعلى أولاده ..، والتحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين … وما أشبه ذلك، فجميع ذلك مقصود للشارع من شرع النكاح”.
فذكر المقاصد الخمسة التي ذكرها الغزالي، وهي:
• التناسل وهو المقصد الأساس وهذا ما ذكره الغزالي.
• طلب السكن والازدواج.
• التعاون على المصالح الدنيوية والأخروية.
• الاستمتاع بالحلال من محاسن للنساء والتجمل بمال المرأة.
• التحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين.
ثالثاً: ابن عاشور ومقاصد أحكام العائلة:
في فصل “مقاصد أحكام العائلة” تناول ابن عاشور المقاصد الخاصة بالأسرة، مفتتحاً كلامه بالإشارة إلى أهمية نظام الأسرة، فذكر أن “انتظام أمر العائلات في الأمة أساس حضارتها وانتظام جامعتها، فلذلك كان الاعتناء بضبط نظام العائلة من مقصد الشرائع كلها. وكان ذلك من أول ما اعتنى به الإنسان المدني في إقامة أصول مدنيته بإلهام إلهي، روعي فيه حفظ الأنساب من الشك في انتسابها… ولم تزل الشرائع تعنى بضبط أصل نظام تكوين العائلة الذي هو اقتران الذكر بالأنثى المعبر عنه بالزواج أو النكاح”.
وكان تناوله لهذه المقاصد في أربع مجموعات هي:
[1] إحكام آصرة النكاح: وقد ذكر فيه أنه بعد استقراء مقصد النكاح وجد أنه يرجع إلى أصلين، هما:
الأول: اتضاح مخالفة صورة عقد النكاح لبقية صور اقتران الرجل بالمرأة في الجاهلية، ومدار ذلك في اشتراط: الولي، والمهر، والشهرة لصحة العقد.
والثاني: أن لا يكون مدخولاً فيه على التوقيت والتأجيل؛ لأن دخول ذلك فيه يقربه من عقود الإيجارات والأكرية، ويخلع عنه ذلك المعنى المقدس الذي ينبعث في نفس الزوجين من دوام الارتباط والاقتران ما صلح الحال بينهما.
[2] إحكام آصرة النسب والقرابة: وهنا أوضح أن الاستقراء أفاد أن من مقاصد الشريعة في حفظ العائلة صيانة النسب من تطرق الشك إليه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالنكاح الشرعي الصحيح وفق الشروط المتقدمة.
[3] إحكام آصرة الصهر: وهي ناشئة عن آصرتي النسب والنكاح.
[4] طرق انحلال هذه الأواصر الثلاث: إذ جعلت الشريعة لكل آصرة وسيلة إلى انحلالها، إذا تبين فساد تلك الآصرة، أو تبين عدم استقامة بقائها.
قال ابن عطية: “والذي فعله ابن عاشور أقرب إلى بيان مقاصد الأحكام الفرعية الجزئية في إطار علاقات الأسرة التي عبر عنها بالأواصر الثلاث منه إلى بيان المقاصد العامة للشريعة في الموضوع، وهذا منطقي مع السياق الذي ورد فيه هذا التحليل، وهو بيان المقاصد في أحد أقسام الشريعة”.
رابعاً: جمال الدين عطية وصياغة مقاصد الأسرة:
أشار إلى أن تناوله للموضوع يختلف من تناول الغزالي وابن عاشور،؛ لأنه “ينطلق من أحكام الأسرة في سياق اعتبار الأسرة أحد المجالات التي نبحث عن مقاصد الشريعة العامة فيها، وهذا ما يفسر المغايرة في النظرة”، ثم ذكر سبع مقاصد اعتبرها المقاصد العامة في مجال الأسرة، وهي:
[1] تنظيم العلاقة بين الجنسين.
[2] حفظ النسل (النوع).
[3] تحقيق السكن والمودة والرحمة.
[4] حفظ النسب.
[5] حفظ التدين في الأسرة.
[6] تنظيم الجانب المؤسسي للأسرة.
[7] تنظيم الجانب المالي للأسرة.
ويبدو أن المقاصد التي ذكرها هي في حقيقتها صياغة جيدة بلغة فقهية للفوائد التي ذكرها الغزالي، مع بعض التفصيل؛ والإضافات؛ لذلك صارت عنده سبعة.
وقد اعتمد القائمون على صياغة “ميثاق الأسرة في الإسلام” المقاصد الخمسة الأولى من مقاصد الأسرة التي ذكرها الدكتور جمال الدين عطية، مع استبدال تسمية المقصد الأول بمقصد “الإحصان” وجعل ترتيبه المقصد الرابع بدل الأول عند عطية.
خامساً: النجار ومقاصد الشريعة في أحكام الأسرة:
يرى أن مقاصد الشريعة في الأسرة تتمثل في أربعة من المقاصد، هي:
[1] حفظ النوع البشري.
[2] مقصد الإفضاء: ويراد به العلاقة بين الزوجين، التي يصل بها أحدهما إلى الآخر بالتمازج الروحي محبّة ومودّة وألفة وسكناً وموالاة، والتمازج الجسمي معاشرة جنسية، فالإفضاء نوعان: إفضاء جنسي، وإفضاء نفسي، وهو مستنبط من قوله تعالى: “وكيف تأخذونَه وقد أفضى بعضُكُم إلى بعضٍ”.
ويبدو أن هذا المقصد جمع بين مقصدين سبقا لعطية، وهما: مقصد “تنظيم العلاقة بين الجنسين” وهو ما عبر عنه هنا بـ”الإفضاء الجنسي” ومقصد “تحقيق السكن والمودة والرحمة”، وهو ما عبر عنه بـ”الإفضاء النفسي”.
[3] مقصد التماسك الاجتماعي: وذلك أن الأسرة في المفهوم الإسلامي ليست شأناً شخصياً يهم أفرادها فحسب، وإنما هي شأن اجتماعي، فينبغي إذن أن تبنى الأحكام الشرعية المنظمة لها على ما يؤدي إلى مقاصدها في المجتمع بالإضافة إلى ما يؤدي إلى مقاصدها في ذاتها.
وهذا المقصد صياغة جيدة وتجميع للمقاصد المبثوثة لدى ابن عاشور في إحكام أواصر النكاح والنسب والقرابة والصهر وطرق انحلالها، كما يبدو أنه أيضاً جمع بين مقصدين ذكرهما عطية، وهما: مقصد “تنظيم الجانب المؤسسي للأسرة” ومقصد “تنظيم الجانب المالي للأسرة”.
[4] مقصد الشهادة على الناس: ويعني ذلك أن الأسرة يجب أن تكون أنموذجاً للتدين الصحيح؛ إذ أن الأسرة الإسلامية أسرة ذات بعد رسالي، تشهد بتدينها على أن هذا التدين هو سبب الفلاح، فيقوم ذلك مقام التبليغ.
وهذا المقصد لعله تعبير آخر لمقصد “حفظ التدين” ضمن مقاصد عطية.
سادساً: وفي دراسة بعنوان: المقاصد الشرعية المتعلقة بالأسرة ووسائلها:
إشارة إلى تقسيم مقاصد الأسرة إلى مقاصد عامة ومقاصد خاصة، وأن المقاصد العامة في مجال الأسرة ثلاثة، وهي: [1] مقصد التناسل. [2] مقصد السكن النفسي. [3] مقصد قضاء الوطر.
وأن المقاصد الخاصة في مجال الأسرة ستة، وهي: صون المرأة وحفظها، وحفظ عموم العائلة، وارتباط عموم العشيرة ببعضها، وإحكام الباب أمام العلاقات المشبوهة، والاحتياط للأنساب، وقطع طمع الناس في المرأة.
سابعاً: مقاصد الأسرة في كتاب “المرأة في التصور القرآني”:
يحتوي على فصل بعنوان “مقاصد الأسرة في الإسلام” ذكرت فيه عدداً من مقاصد الأسرة، فتحت عنوان “أهمية الأسرة” ذكرت ثلاثة مقاصد، هي: الذرية الصالحة، والتدريب على تحمل المسؤولية، وتربية الأطفال.
وذكرت ثلاثة أخرى تحت مبحث “مزايا الحياة الزوجية”، وهي: تحقيق السكن النفسي وإشباع الغريزة الجنسية، وقاية المجتمع من فاحشة المجتمع، والاستمتاع والتسامي. بينما ذكرت تحت مبحث “الترابط الأسري” مقصدين، هما: الحفاظ على الأنساب، وتقسيم الميراث.
ثامناً: وفي بحث بعنوان: “مقاصد الشريعة في الزواج والطلاق” :
ذكر لجملة من مقاصد الزواج لا تخرج في مجملها عما ذكر، إلا أن الباحث أجمل هذه المقاصد في أمرين، قائلاً: “وفي الجملة نقول: إن المقصود من هذا كله تحقيق أمرين لهما أثر في حياة الأمة وكيانها القومي:
أولهما: تحصين النفوس بالحلال وإبعادها عن الفاحشة حتى لا يشيع الفسق ولاينتشر الفساد في الأمة بإعراض أفرادها لا سيما الشباب عن الزواج …
وثانيهما: زيادة أفراد الأمة وكثرة التناسل بها، لأن عزة الأمة وقوتها تتوقفان إلى حد كبير على كثرة أفرادها ونمو عددها…”.
تاسعاً: خلاصة وتحليل:
{أ} بالنظر إلى ما ذكر في هذه الدراسات السابقة من مقاصد الأسرة نجد أن مجموعها نحو عشرين مقصداً على الرغم من التداخل فيما بينها. وتتلخص في: حفظ النسل وحفظ النسب. والإحصان (التحصن من الشيطان وكسر التوقان- تنظيم العلاقة بين الجنسين – الإفضاء الجنسي- قضاء الوطر- إشباع الغريزة الجنسية) ، والسكن النفسي ، (تحقيق السكن والمودة والرحمة – وترويح النفس وإيناسها – الإفضاء النفسي) ، وحفظ التدين في الأسرة (الشهادة على الناس) ، والتماسك الاجتماعي وفي معناه : (التعاون على المصالح الدنيوية والأخروية – تنظيم الجانب المؤسسي للأسرة، وتفريغ القلب عن تدبير المنزل، وتنظيم الجانب المالي للأسرة، ومجاهدة النفس بالرعاية والولاية والقيام بحقوق الأهل).
{ب} بعد النظر والتمعن في هذه المقاصد يظهر أنه يمكن إرجاعها إلى خمسة مقاصد رئيسة هي:
[1] حفظ النسل، ويندرج فيه حفظ النسب.
[2] الإحصان: ويتضمن عدداً من المقاصد المذكورة أعلاه، وهي:
• “التحصن من الشيطان وكسر التوقان” عند الغزالي.
• “تنظيم العلاقة بين الجنسين” عند عطية.
• “الإفضاء الجنسي” عند النجار.
• قضاء الوطر
• إشباع الغريزة الجنسية
• كما يشمل أيضاً ما يعرف بـ”حفظ العرض”.
[3] تحقيق السكن والمودة والرحمة، ويشمل:
• السكن النفسي
• مقصد “الإفضاء النفسي” عند النجار.
• مقصد “ترويح النفس وإيناسها” عند الغزالي.
[4] التماسك الاجتماعي بتقوية مؤسسة الأسرة، ويندرج فيه:
• مقصد “تفريغ القلب عن تدبير المنزل …” عند الغزالي.
• مقصد “مجاهدة النفس بالرعاية والولاية والقيام بحقوق الأهل …” عند الغزالي أيضاً.
• مقصد “التعاون على المصالح الدنيوية والأخروية” عند الشاطبي.
• مقصد “تنظيم الجانب المؤسسي للأسرة”
• ومقصد “تنظيم الجانب المالي للأسرة”، وكلاهما عند عطية.
• مقصد “حفظ التدين في الأسرة” عند عطية، وفي معناه “الشهادة على الناس” عند النجار، وقد يقال إنه مشمول بالمقاصد العامة للشريعة الإسلامية، والتي تعتبر أيضاً مقاصد للأسرة باعتبارها من جملة الأحكام الشرعية المشمولة في هذه المقاصد العامة.
وفي المبحث الثاني نتناول المقاصد الخمسة المذكورة ووسائل تحقيق كل منها