مقصد الإحصان ووسائل تحقيقه
من كتاب (مقاصد الشر يعة الإسلامية وأثرها في رعاية حقوق الإنسان : دراسة تأصلية مقارنة)
د. محمد شيخ أحمد محمد “محمد حاج”
أولاً: مفهوم مقصد الإحصان:
والإحصان في اللغة: المنع من أحصن إحصانا: تزوج، والحصن: الموضع الحريز الذي لا يوصل إلى ما فيه والمكان الذي لا يقدر عليه؛ لارتفاعه فهو “حَصِينٌ” ، أي منيع، وجمعه “حُصُونٌ” ، ومنه الحصانة الدبلوماسية والبرلمانية؛ إذ إن صاحبها ممنوع الوصول إليه إلا بواسطة إجراءات معينة.
وقد ورد الإحصان في القرآن بمعان، منها :
• الزواج، كما في قوله تعالى: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) ، وَقَوْلُهُ: ( أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) أَيْ مُتَزَوِّجِينَ غَيْرَ زَانِينَ.
• الْعِفَّةُ، كما في قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فجلدوهم ثمانين جلدة) ، أَيْ الْعَفَائِفَ.
• الْحُرِّيَّةُ ، كما في قوله تعالى: ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) ، أَيْ: الْحَرَائِرَ .
فالإحصان يعني العفة المتناهية، والزواج والحرية من مظانها ووسائلها؛ لأن بالزواج تتحقق العفة في الغالب، وفي الحديث: (إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي) ، وكان من شأن الحرائر الترفع والتعفف من الزنا؛ إذ كن يعتبرنه من سلوك الإماء الذي لا يليق بمقام الحرائر. قال في لسان العرب: “وأَصل الإحْصانِ المنعُ، والمرأَة تكون مُحْصَنة بالإسلام، والعَفافِ، والحريّة، والتزويج. يقال أَحْصَنَت المرأَة فهي مُحْصَنة ومُحْصِنَة وكذلك الرجل..”.
وهذا المقصد منصوص عليه في قوله r: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء”، فواضح من الحديث تعليل الأمر بالزواج في حالة الاستطاعة بتحقيق مقصد الإحصان، كما أن الأمر بالصوم في حال عدم الاستطاعة أيضاً معلل بما يحقق مقصد الإحصان وهو “الوجاء”.
وكون الإحصان مقصداً شرعياً للزواج ظاهر أيضاً من الكثير من النصوص القرآنية التي ترشد إلى أن الزواج منوط بالعفة والإحصان بدءاً وانتهاء، فالعفة والإحصان شرط في اختيار الزوج والزوجة، كما أنه شرط في الهدف والمقصد من الزواج، وكلا الأمرين ظاهر في قوله تعالى: (أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ) .
كما هو ظاهر في سورة النساء، فبعد ذكر المحرمات من النساء بالنسب والرضاعة والمصاهرة، (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافخين) ، فأباح الزواج بما عدا المذكورات من النساء بشرط أن يكون الهدف والمقصد هو طلب الإحصان بالزواج، وليس السفاح.
وفي الآية التالية لهذه الآية اشتراط الإحصان في زواج الإماء في حال تعذر زواج المحصنات الحرائر، فقال تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متحذات أخدان ) ، ثم بين في الآية نفسها أن ارتكاب الإماء للفواحش بعد تحقق مقصد الإحصان لهن بالزواج يوجب عليهن عقوبة الزنا، ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم ) ، وفي الحديث أن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ r ـ فَنَهَاهُ عَنْهَا وَقَالَ : (إِنَّهَا لاَ تُحْصِنُكَ).
وهكذا يصبح “الإحصان” من أهم مقاصد الأسرة التي يحققها الزواجُ الشرعي؛ إذ به يتحقق صَوْن العفاف، وحفظ الأعراض، وسدّ ذرائع الفساد الجنسي بالقضاء على فوضى الإباحية والانحلال .
ثانياً: وسائل تحقيق مقصد الإحصان:
وفي الشريعة أحكام كثيرة جاءت محققة لـ”مقصد الإحصان”، منها: الحض على الزواج، وإباحة التعدد بشروطه، واجتناب العلاقات خارج الزواج من زنا وشذوذ، وسد طرق الإغراء بالعفة والحجاب ومنع الخلوة وغيرها.
ومن جملة وسائل تحقيق مقصد الإحصان: الاستمتاع بالمعاشرة الزوجية، وإشباع الغريزة الجنسية بالإفضاء والتمازج بالجنس الآخر، بطريقة تليق بكرامة الإنسان ومقامه؛ وذلك أن المتعة الجنسية الحاصلة من البناء الأسري معدودة في الدين من النعم التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان، وغاية من غايات الزواج، ومن أفضل سبل تحقيق “مقصد الإحصان”؛ ولذلك أولتها الشريعة الإسلامية في أحكامها وتوجيهاتها الأهمّية البالغة التي تتناسب معها، وجماع ذلك ما جاء في الدين من حثّ على التمتّع بهذه النعمة حثّا يبيح أن يبلغ ذلك التمتّع أقصى ما يمكن من الكمال، ويمنع كلّ ما عساه أن يفضي بسببها إلى ضرر بأحد الزوجين أو بكليهما ظاهراً كان أو خفيّاً.
والقاعدة الأساسية في هذا الشأن هي قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) ، ففي الآية إباحة شرعية للمعاشرة الجنسية على الوجه الذي يحقّق أعلى درجة من المتعة، وهو ما تفيده سعة المدلول لـ “أنّى” ، فهي تفيد الكيفية في الجماع، والظرفية المكانية والزمانية التي يكون فيها.
وقد أُحيطت هذه الإباحة الواسعة بممنوعات تعصمها من أن تؤول إلى ضدّها من الألم الذي يحدثه الضرر الذي ينشأ من بعض أحوالها، وهو ما أفاده قوله r:(أقبل وأدبر واتّق الدبر والحيضة).
ولذلك بينت الشريعة الإسلامية الأحكام المتعلّقة بحقوق الزوجين وواجباتهما التي من ضمنها الحقوق والواجبات الجنسية، وآثار هذه الحقوق والواجبات في حال أدائها أو الإخلال بها على استمرارية الزواج أو إنهائه.
ومنها ما جاء في البيانات الشرعية والتوجيهات القرآنية والنبوية الكثيرة من آداب وضوابط في المعاشرة الجنسية، ومن إرشادات إلى ما تبلغ به ذروتها في تحقيق المتعة وما يعصمها من المآل إلى الأضرار الجسمية والنفسية في بعض أحوال إتيانها. وكلّ تلك الأحكام والتوجيهات تلتقي عند اعتبار الإفضاء الجنسي مقصداً شرعياً، ووسيلة فعالة في الوقت نفسه من وسائل تحقيق مقصد الإحصان.
ومن وسائل المحافظة على مقصد الإحصان بعد تحقيقه بالعفة والزواج منع القذف والإساءة إلى العرض وإقامة حد القذف على القاذف؛ لانتهاكه حرمة إحصان المحصنين والمحصنات، قال تعالى : (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأؤلئك هم الفاسقون).