مقصد حفظ تدين الأسرة ووسائل تحقيقه
من كتاب (مقاصد الشر يعة الإسلامية وأثرها في رعاية حقوق الإنسان : دراسة تأصلية مقارنة)
د. محمد شيخ أحمد محمد “محمد حاج”
أولاً: مفهوم مقصد حفظ تدين الأسرة:
من أهم مقاصد الأسرة في الإسلام التربية الروحية والرعاية الفكرية لأفرادها بغرْس القيم الدينية والخُلُقية في نفوسهم، وتبدأ مسئولية الأسرة في هذا المجال قبل تكوين الجنين بحُسْن اختيار كلّ من الزوجين للآخر، وأولوية المعيار الديني والخلقي في هذا الاختيار، وتستمر هذه المسئولية بتعليم العقيدة والعبادة والأخلاق لأفراد الأسرة وتدريبهم على ممارستها، ومتابعة ذلك حتى بلوغ الأطفال رُشْدهم واستقلالهم بالمسئولية الدينية والقانونية عن تصرفاتهم.
وتتجاوز أبعاد هذا المقصد حدود الأسرة إلى حفظ التدين في المجتمع الإسلامي؛ لكون الأسرة الخلية الأولى التي ينشأ منها المجتمع، وتحقق هذا المقصد داخل الأسرة يعني تحققه داخل المجتمع المسلم. بل يتعدى الأمر المجتمع الإسلامي إلى غيره من المجتمعات عن طريق الدعوة إلى الإسلام بالقدوة الحسنة، وتقديم أنموذج التدين الصحيح الذي يجلب السعادة للأسرة المسلمة، “وهو ما من شأنه أن يكون مجلبة للتّأسّي بالنتائج يدفع حتما إلى التأسّي بالأسباب التي هي التمسّك بأحكام الدين التي أثمرت السعادة والنجاح، وعلى هذا المعنى فإنّ الأسرة الإسلامية هي أسرة ذات بعد رسالي، تشهد بتديّنها على أنّ هذا التديّن هو سبب الفلاح، فيقوم ذلك مقام التبليغ الديني تبليغا عملياً”.
ثانياً: وسائل تحقيق مقصد حفظ تدين الأسرة:
ومن الأحكام الشرعية الدالة على هذا المقصد:
[1] التوجيه إلى التحرّي في اختيار الزوج تأسيساً على التديّن والكفاءة بصفة أساسية، فقد جاءت التوجيهات النبوية بشأن اختيار كل من الزوجين على أساس الدين والخلق، واضحة وصريحة، ومحذرة من العواقب الوخيمة في حال تجاهلها.
ففي بيان ضروة اختيار الزوجة بدينها يقول الرسول r: (تنكح المرأة لأربع: لجمالها ولحسبها، ولمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) أو كما قال . كما وجه النبي r أو لياء أمور الفتيات بضرورة مراعاة هذا المعيار في احتيار الزوج بقوله r: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
[2] سيرة الأنبياء والرسل ومنهم نبينا محمد r في الاهتمام بدعوة أقرب الناس إليهم: زوجاتهم وأولادهم وسؤال الله الهداية لهم، ولم ينجح بعضهم في ذلك كنوح ولوط، ولكن يبقى المعنى في أهمية التدين في الأسرة واستمرار ذلك جيلاً بعد جيل، ومسؤولية رب الأسرة عن العناية بذلك، وهو ما يدل عليه التوجيه القرآني في قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعافقبة للتقوى) ، وأما النجاح والفشل فمرتبط بمبدأ المسؤولية الفردية للزوجات والأولاد.
[3] ما جاء في التشريع الأسري من أنّ الاستمرارية في الحياة الأسرية أو التوقّف عنها بالانفصال يتوقّف على مدى تطبيق أحكام الشريعة فيها، فإذا ما كانت تلك الأحكام مطبّقة كان ذلك عامل استمرار، وإذا ما أصبحت منتهكة كان ذلك مبرّر انفصال، وهو مقتضى قوله تعالى: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها) ، ” وحدود الله استعارة للأوامر والنواهي الشرعية بقرينة الإشارة”.
ومن مدعّمات البعد الرسالي للأسرة كما في هذه الآية التعبير القرآني عن الالتزام بأحكام الشريعة بإقامة حدود الله، ففي هذا التعبير معنى الإظهار مستفاداً من لفظ الإقامة ومن لفظ الحدود، فكلّ منهما يومئ إلى الإعلان في التزام الأحكام الضابطة للحقوق والواجبات والموجّهة للتعايش بالمعروف.
ومن ذلك أيضا التوجّه بالخطاب في الخوف من ألاّ تقوم أحكام الشريعة في الأسرة إلى عامّة المسلمين أي إلى المجتمع الإسلامي، فذلك يومئ إلى أنّ الالتزام بهذه الأحكام في نطاق الأسرة هو أمر يهمّ المجتمع الذي يشهد ذلك الخلل فيتأثّر به سلباً بعض المتأثّرين، كما يشهد حال الالتزام الأسري بالأحكام فيكون لذلك الأثر الإيجابي في الكثير من أفراده.
ولعلّ من مؤكّدات هذا البعد الرسالي أيضا تعليق انفصال الرابطة الأسرية بالخلع على الخوف من عدم الالتزام بالأحكام الشرعية وليس على وقوع ذلك فعلا، وذلك ما يشير إلى ما لتعطيل الأحكام الشرعية في الحياة الأسرية من الأثر السلبي على المجتمع، فيكون مبرّرا لتلافيه قبل وقوعه ، وهو ما أشار إليه الإمام الطبري في قوله:”إنّ الله تعالى ذكره إنّما أباح للزوج أخذ الفدية من امرأته (وإنهاء العلاقة الأسرية بالخلع) عند خوف المسلمين عليهما أن لا يقيما حدود الله”.