سلسلة مقاصد الأسرة وأثرها في رعاية حقوق الإنسان (7)

من كتاب: (مقاصد الشر يعة الإسلامية وأثرها في رعاية حقوق الإنسان : دراسة تأصلية مقارنة) ، د.. محمد شيخ أحمد محمد “محمد حاج”مقصد التماسك الاجتماعي ووسائل تحقيقه

أولاً: مفهوم مقصد التماسك الاجتماعي:

ونقصد به تقوية مؤسسة الأسرة بتماسك أعضائها، بحيث تصبح أساساً ونموذجا ًلتماسك المجتمع، ويتم ذلك عبر التعاون التام بين جميع أفرادها على تحقيق مقاصدها في المصالح الدنيوية والأخروية، ويشمل ذلك تنظيم الجوانب الإدارية والمالية والتربوية لمؤسسة الأسرة، عبر منهج تكاملي ينبني على توزيع الأدوار وتكاملها. وذلك ما يجعل مؤسسة الأسرة نموذجاً للتماسك الاجتماعي.

وهذا ما يعني أنّ الأسرة في المفهوم الإسلامي ليست شأنا شخصيا يهمّ أفرادها فحسب، وإنّما هي شأن اجتماعي، وهوما يتطلب بناء الأحكام الشرعية المنظّمة لمؤسستها على ما يؤدّي إلى مقاصدها في المجتمع بالإضافة إلى ما يؤدّي إلى مقاصدها في ذاتها؛ ذلك لأنّ الأسرة هي الخليّة الأولى من خلايا المجتمع، فمستقبله من نهضة وارتكاس يتوقّف إلى حدّ كبير على ما تكون عليه الأسرة من حال الرقيّ أو التدنّي.

ولعلّ هذا المقصد الاجتماعي العامّ للأسرة هو أن تكون هذه الأسرة عامل وحدة اجتماعية، وذلك بما يفضي إليه بناؤها ابتداء وتصرّفاتها بعد البناء من تقوية اللحمة بين أفراد المجتمع وفئاته، بحيث يكون للأسرة دور اجتماعي أساسي فيما يسوده من التآلف، وما يربطه من صلات الودّ، وما يسود فيه من قيم الأخلاق، وما يحكمه من القوانين والآداب، دون أن تبقى حبيسة ذاتها ولو كان ذلك من أجل تحقيق مصالحها التي يعود حقّا نفعها عليها في ذاتها ولكن على وجه الاقتصار الذي لا يتعدّى به شيء من ذلك النفع إلى المجتمع فضلا عن أن يكون مفضيا إلى ضرر به.

ثانياً: وسائل تحقيق مقصد التماسك الاجتماعي:

“المتأمّل في أحكام الأسرة ابتداء من الخطبة إلى الطلاق يجد خيطاً رابطاً بينها جميعاً قد يظهر جليّاً أحياناً، وقد يدِقّ أحياناً أخرى فلا يُدرك إلاّ بالتأمّل، وهو العمل على تقوية الرابطة الاجتماعية في أوسع مدى ممكن من الدوائر، والعمل على نزع أسباب التنافر والتنازع التي يمكن أن تنشب فيها”.

ومن الأحكام الشرعية التي جاءت محققة لهذا المقصد:

[1] تأسيس مؤسسة الأسرة ابتداء بناء على رضا الطرفين:
فإن الشريعة حكمت في البناء الأسري ابتداء بأن يقوم على قبول الطرفين للاشتراك في هذا البناء؛ لأنّ ذلك أدعى إلى أن يلتزم كلّ منهما بمقتضيات الحياة الزوجية من الأحكام، والعكس صحيح؛ ولهذا لا يجبر فى الإسلام الفتى أو الفتاة على الزواج ممن لا يرغبان فيه، وقد جاءت جارية بِكْر إلى النبى  فذكرت أن أباها زوجها وهى كارهة، فخيرها النبى .

[2] تأبيد مؤسسة الأسرة وديمومتها:
وذلك أن بناء الأسرة مبتي على قصد الاستمرار، واستبعاد كل ما من شأنه الإخلال بقصد الشارع في تقوية مؤسسة الأسرة وتماسكها بالديمومة والاستمرار، فمنع الأنكحة الفاسدة المتضمنة لما ينافي هذا المقصد من التوقيت والتأجيل، والمؤذنة بقرب انفراط عقد الأسرة، مثل: نكاح المتعة، نكاح السر ونحوها؛ وذلك أن بناء الزواج على الدوام يدعو الزوجين إلى التمسك والتحصن بمؤسسة الأسرة وتقويتها، بخلاف انبنائه على التأجيل والتوقيت ” فإنّ الدخول على عقدة النكاح على التوقيت والتأجيل يقرّبه من عقود الإجارات والأكرية ، ويخلع عنه ذلك المعنى المقدس الذي ينبعث في نفس الزوجين من نية كليهما أن يكون قريناً للآخر ما صلح الحال بينهما، فإنّ الشيء المؤقّت المؤجّل يهجس في النفس انتظار محلّ أجله ويبعث فيها التدبير إلى تهيئة ما يخلفه به عند إبّان انتهائه … وهذا يفضي لا محالة إلى ضعف الحصانة”، إذ أن “عقد الزواج قد شرع لتحقيق مقاصد، أهمها العشرة الدائمة، والسكن، وإنجاب الولد وتربيته، والتأقيت يتنافى مع كل هذه المعاني”.

[3] تأسيس الأسرة وإدارتها في كل مراحلها بإشراف المجتمع وعلى عينه:
وذلك لضمان التماسك الأسري والمجتمعي متمثلاً في: اشتراط الولي، والشهود، والإعلان، والوليمة، قصد الديمومة في عقد التأسيس، وكلها من مقومات قوة الأسرة وتماسكها.
فمن أحكام الأسرة أن يكون تأسيسها بالزواج شأنا اجتماعيا يشرف عليه الأهل من الطرفين بالولاية، ويشارك فيه المجتمع بالإشهار، فإذا ما شابتها أثناء رحلة الحياة شوائب الشقاق أشرف المجتمع على ذلك بتحكيم حكمين من أهل الزوج والزوجة للحيلولة دون ما عسى أن يتركه ذلك الشقاق من أثر سلبي على العلاقات التي كانت قد توطّدت بآصرة الصّهر، وذلك إمّا استئنافا المعاشرة بالمعروف أو إنهاء لها بإحسان. وفي هذا الافتتاح لبناء الأسرة بإشراف المجتمع، وفي تعهّده بعد ذلك لتقويم بنيته، وفي الإشراف على إنهائه بالإحسان إذا ما اقتضى الحال ما يوحي بأنّ لأحكام الأسرة فيما بين مبتدئها ومنتهاها مقصداً اجتماعياً يقوم على وحدة المجتمع وتآلفه وترابطه ينتظمها جميعا سواء كان بيّنا أو خفياً بعض الخفاء.

ومن أبرز ما يدلّ على المقصد الاجتماعي من الأسرة أنّ الدين قد اعتبرها في خطابه شأنا اجتماعيا وليس شأنا شخصيا، وأوكل شطراً كبيراً من شؤونها إلى المجتمع يرى فيه رأيه، ويعالجها بمعرفته، ولا أدلّ على ذلك من أنّ الخطاب في هذه الشؤون جاء خطابا جماعيا بالرغم ممّا تبدو عليه هذه الشؤون من صبغة شخصية لا تتعلّق إلاّ بذات الأسرة، وذلك مثل قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) ، وقوله: (ولا تنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) ، وقوله: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها) ، فهذا الخطاب القرآني المطّرد في شؤون الأسرة لجماعة المسلمين يدلّ على أنّ في أحكام الأسرة مقصداً اجتماعياً أساسياً.

Share:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn