سلسلة مقاصد الأسرة وأثرها في رعاية حقوق الإنسان (8)

ن كتاب (مقاصد الشر يعة الإسلامية وأثرها في رعاية حقوق الإنسان : دراسة تأصلية مقارنة) د. محمد شيخ أحمد محمد .

أثر مقاصد الشريعة في رعاية الحقوق الأسرية

تمهيد :

تتكون الأسرة أساساً من الآباء (وهم الزوج والزوجة، ثم الأب والأم)، والأولاد من البنين والبنات، ثم تمتد إلى الأقارب من الأجداد والأحفاد، والإخوة والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، كما تمتد إلى الأصهار أيضاً، فلكل هؤلاء حقوق وواجبات متبادلة في مؤسسة الأسرة في الإسلام.

وهذه الحقوق فصلها القرآن الكريم، على غير عادته في أحكام المعاملات، التي يتعرض لها إجمالاً، ودون تفصيل، كما خصص لها فقهاء الإسلام قسماً كبيراً من أقسام الفقه الإسلامي، سموه “باب النكاح”، ويسميه الفقهاء المعاصرون بـ”بفقه الأسرة” أو “فقه المعاملات الأسرية”، أو “الأحوال الشخصية”.

فحقوق الأسرة في الإسلام مبثوثة هناك بتفصيل، وليس مرادنا في هذا البحث تتبعها، ولا يمكن لنا ذلك في مثل هذا البحث، وإنما غرضنا إرجاع هذه الأحكام والحقوق إلى ثلاث مجموعات رئيسة تبعاً لمستحقيها، للإشارة إلى الخيط الناظم لها، من خلال أثر المقاصد الشرعية ـ التي ترمي هذه الأحكام إلى تحقيقها والتي سبق الحديث عنها في المبحث الأول ـ في رعاية حقوق كل مجموعة.

وسيتم تناول هذه المجموعات في النقاط التالية:

1. أثر مقاصد الشريعة في رعاية حقوق مؤسسة الأسرة.
2. أثر مقاصد الشريعة في رعاية حقوق الآباء والأزواج.
3. أثر مقاصد الشريعة في رعاية حقوق الذرية والأطفال.

النقطة الأولى: أثر مقاصد الشريعة في رعاية حقوق مؤسسة الأسرة

ينظر الإسلام إلى الأسرة على أنها مؤسسة واحدة، مبنية على الحب والوئام، وإن كانت متعددة الأركان والأعضاء، وملؤها الحب والحنان، والرحمة والمودة، والتعاون والتكامل في الأدوار والوظائف، يتبادر أعضاؤها إلى أداء ما عليهم من مسؤوليات تجاه الآخرين من منظور المسؤولية والتكليف الشرعي، وهذه الواجبات هي في حقيقتها حقوق بقية أطراف المؤسسة، فالزوج عليه واجبات في إطار الأسرة، وهذه الواجبات هي حقوق الزوجة والأبناء وبقية الأقارب والأصهار، والزوجة كذلك عليها واجبات هي عبارة عن حقوق الزوج والأطفال وبقية أعضاء الأسرة، وكذلك الحال في الأبناء والأقارب.

فالنظرة إلى حقوق الأسرة في الإسلام ليست نظرة تجزيئية عدائية، تتجاذبها الأطراف، ويسعى كل طرف إلى انتزاع حقوقه من الآخرين، الذين لا يقصرون في انتهاكها كل ما أمكنهم ذلك ووجدوا إليه سبيلاً، كما هو حال المجتمعات التي تسود فيها النظرة المادية بسبب عزل القيم الدينية والخلقية من التأثير على أسلوب حياتها ونظمها التشريعية.

ولذلك من السهل ملاحظة أن مقاصد الأسرة في الشريعة الإسلامية التي تحدثنا عنها روعيت في صياغتها هذه النظرة الكلية المتجانسة لمؤسسة لأسرة، التي تضمن حقوق كل فرد منها في هذا الإطار المتماسك المتناسق، بل إن التماسك والتجانس الاجتماعي وانتشار المودة والرحمة والوئام بين أفرادها من أهم مقاصدها، ولم تراع في صياغتها تلكم النظرة التجزيئية المتناثرة المتناحرة لأفراد الأسرة، التي يسعى كل منها إلى التوقي والتحصن من التهام الآخرين له.

وهنا لسنا بحاجة إلى شرح الأثر الإيجابي الذي تتركه هذه الروح في رعاية حقوق منظومة الأسرة كلها، دونما تفرقة أو تجزيء، ولعل هذا من أهم ما يتميز به التشريع الإسلامي في هذا المجال على غيره من التشريعات.

ولكن يمكن الإشارة إلى نماذج وأمثلة لأثر مقاصد الشريعة في رعاية حقوق مؤسسة الأسرة، بحيث تصب هذه الحقوق في تقوية مؤسسة الأسرة، ويتمتع بها كل المنضوين تحتها بشكل متساو، فليست حقوقاً خاصة ببعض الأفراد دون بعض .

ولنضرب مثالين لهذه الحقوق:
أحدهما: حق تكوين الأسرة على نحو يحقق مقاصدها وحمايتها من المهددات.
والثاني: نشر الثقافة الجنسية الصحيحة لحماية مؤسسة الأسرة.

أولاً: حق تكوين الأسرة وحمايتها:

تكوين الأسرة على نحو يحقق مقاصدها في نفسها أولاً، ثم في المجتمع ثانياً هو أول حقوق الأسرة، فمن حق كل إنسان أن يتزوج، والزواج هو الطريق الشرعى لبناء الأسرة وإنجاب الذرية وإعفاف النفس، وقد حث الله تعالى المجتمع الإسلامى على تيسير الزواج ورعاية هذا الحق، ممثلاً في أولياء الأمور في مؤسسات الأسرة والمجتمع والدولة على التوالي، وهم المخاطبون بقوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) .

وقد جاءت في السنة النبوية موجهات كثيرة مماثلة، منها قوله r: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) . وقد ذكر الإمام العز بن عبد السلام: أن من حقوق بعض المكلفين على بعض حقوق نكاح النساء على الأولياء … وتزويج الأيامى” . فبنظام الزواج تتكون مؤسسة الأسرة، ومنه تتشعب القرابة بفروعها وأصولها، وتنشأ الأمومة والأبوة والبنوة، وكذلك الأخوة وما دونها من صور العصبية، ومن امتزاج رابطة النكاح برابطة النسب والعصابة؛ تحدث رابطة الصهر، ومن مجموع هذه الروابط يتكون نظام العشائر، فالقبائل، فالشعوب فالأمم.

ولقد أصابت مؤسسة الأسرة في التاريخ القديم والحديث نكبات شديدة، واعتراها خطب شديد، ولعب الهوى والشهوة والجنس دورًا شيطانيًا خبيثًا، ولا تزال مؤسسة الأسرة تُستهدف بوسائل متعددة، وتعقد لذلك المؤتمرات والندوات، وتتعرض الأسرة في ظل نتائج هذه المؤتمرات دعوات لهدم الأسس المتينة التي تقوم عليها، مما يستدعي حماية جادة من المهددات الخارجية لمؤسسة الأسرة.

كما تتعرض مؤسسة الأسرة لمعوقات كثيرة داخلية عن طريق تراكم الأعراف والتقاليد في المجتمعات الإسلامية التي أصبجت بمرور الزمن عقبات على طريق تأسيس الأسرة ومسيرتها نحو تحقيق أهدافها ومقاصدها، متخذة تارة شكل قيود كثيفة من قوائم لشروط الزواج ومبالغة في تكاليفه مما يزهد الشباب في الزواج، وحيناً شكل التساهل في الضوابط الشرعية لتحقيق مقاصد الزواج، والتفلت على الرقابة الاجتماعية لبناء مؤسسة الأسرة بسبب القيود الكثيرة الجائرة، واستحداث صور وأشكال من الزواج لا تحقق مقاصده السامية مثل: زواج السر والمسافة والمسيار ونحوها.

وأياً كان شكل هذه العقبات والمعوقات الداخلية أمام حق بناء الأسرة من تشدد وتقييد، أوتساهل وتفلت فالنتيجة واحدة، وهي الإسهام في سد الشباب عن حقهم في تأسيس أسرهم على نحو يحقق مقاصد الشرع ومصالحهم في مؤسسة الأسرة، وهو ما يمهد السبيل لانتشار صور أخرى وافدة، مثل: الصداقة والانحلال والتفسخ والشذوذ، أو مستحدثة محلياً بأسماء ومسميات غير متطابقة سبقت الإشارة إلى بعضها، والمعنى الجامع لها جميعاً، والقاسم المشترك بينها، هو أنها لا تحقق مقاصد الشرع، ولا تخدم مصالح الأسرة، لتحل محل الطريق الشرعي لبناء مؤسسة الأسرة الذي يحقق المقاصد والمصالح معاً.

وهذا كله يضاعف مسؤولية أولياء الأمور والمسؤولين بمختلف مستوياتهم لحماية مؤسسة الأسرة من هذه المخاطر والعقبات التي تهدد بقاءها قوية وفاعلة، وتقلل من دورها في صناعة المجتمع المنشود على نحو تنسجم فيه مقاصد الشرع ومصالح الأسرة.

وقد اعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الأسرة أساس المجتمع، وأقر بحقها في الحماية، حيث نص على أن “الأسرة هي الوحدة الطبيعية الأساسية للمجتمع ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة” . كما أقر بحق الزواج وتكوين الأسرة بالنص على أن “للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين” .

كما جاء في إعلان القاهر حول حقوق الإنسان في الإسلام مايلي :
{أ} “الأسرة هي الأساس في بناء المجتمع، والزواج أساس تكوينها وللرجال والنساء الحق في الزواج، ولا تحول دون تمتعهم بهذا الحق قيود منشؤها العرق أو اللون أو الجنسية”.
{ب}”علي المجتمع والدولة إزالة العوائق أمام الزواج وتيسير سبله وحماية الأسرة ورعايتها”. فنص على الدعوة إلى إزالة العوائق والعقبات أمام مؤسسة الأسرة وحمايتها ورعايتها.

ولم يختلف الإعلان الإسلامي مع ماجاء في الإعلان العالمي بشأن تكوين الأسرة إلا في السكوت عن نفي قيد اختلاف الدين في الحق في الزواج؛ “إذ المسلمة لا تتزوج ابتداء بغير المسلم، بغض النظر عن الإسلام الطارئ على الزواج” ، وهذا اعتراض أساسي، وكان حرياً بالتصريح؛ إذ كيف يتصور أن يكون القائم على مؤسسة من أهدافها الأساسية إقامة التدين من لا يؤمن بالدين أصلاً ولا يقيم له وزناً؟.

ولكن الإعلان قرَّر في المادة الرابعة والعشرين منه على أن “كل الحقوق والحريات المقررة في هذا الإعلان مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية”، وفي المادة الخامسة والعشرين على أن “الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذه الوثيقة”، “وكل ذلك يدل على أن إعلان القاهرة لم يقر زواج المسلمة من غير المسلم دون أن يصرح بذلك تجنباً للحساسيات” .

أما البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام فاكتفى بالقول بأن “الزواج بإطاره الإسلامي حق لكل إنسان، وهو الطريق الشرعي لبناء الأسرة وإنجاب الذرية وإعفاف النفس” ، فكأنه أحال التفاصيل كلها إلى مضمون عبارة “بإطاره الإسلامي”، مما يعني أن تفاصيل طرق إنشاء مؤسسة الزواج يجب أن تكون وفق أحكام الشرع ومقاصده.

ثانياً: حق تعليم ونشر الثقافة الجنسية الصحيحة:

وعلى الرغم مما يمكن أن يثيره هذا الموضوع من حساسية، إلا أن الحقيقة أنه لايمكن حماية الأسرة من الموجات العاتية من الثقافة الجنسية المنحرفة والمنحلة التي تدخل على البيوت دون استئذان من أربابها، في ظل العولمة المعلوماتية التي يعيشها العالم اليوم – لا يمكن مقاومة ذلك إلا بتعليم أفراد الأسرة “فقه النكاح”، ونشر المعرفة الجنسية الصحيحة، والتثقيف الجنسي المشروع المشبع بالقيم الإسلامية، والضوابط الشرعية، والنظرة العلمية، في إطار مؤسسة الأسرة؛ وتقديم ذلك كله بحسب ما يوافق كل مرحلة من المراحل العمرية؛ عبر مختلف وسائل التربية والتعليم والتوجيه وصناعة الرأي العام ، بدلاً من التقاط هذه الثقافة بطرق منحرفة؛ إذ من شأن هذا التعليم والتثقيف الصحيح أن يزود أفراد الأسرة بالتطعيم ضد التيارات الجارفة، وأن يكون مصلاً لمؤسسة الأسرة من طوفان ثقافة الجنس والانحلال التي تغزوها في عقر دارها.

والشريعة الإسلامية لم تترك في العلاقات الزوجية شيئاً له أهمية في تنظيم الحياة الجنسية بين الزوجين إلا وتحدثت عنه بشكل عفوي، وقدمته للراغبين في الاستمتاع الشرعي بكل تلقائية، وهي تعالج في ذات الوقت عقلية الانحطاط، وتقاوم ضغط التقاليد والأعراف التي ما فتئت تعد الحديث في موضوع الجنس رجساً من الفساق يجب اجتنابه، أو أنه من العيب الذي لا يجوز الخوض فيه، أو من الأمور التي ينبغي التنزه عنها، أو من الحياء الذي ينبغي الالتزام به!! والحقيقة أنه لا حياء في معرفة الثقافة الجنسية المشروعة ونشرها بين الناس، عملاً بقاعدة: لا حياء في الدين، ورحم الله نساء الأنصار؛ لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين، فقد كن أكثر النساء بحثاً عن الثقافة الجنسية وتفقهاً فيها على يد رسول الله r وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن.

والمطلوب عرض المنهج القرآني في التربية الجنسية، وتحصين الأسرة والأطفال خصوصاً به، لمقاومة ثقافة التفسخ والانحلال، وحرية الجسد والمتاجرة به، وحماية الجنس البشري من الاختراق بهذه الأوبئة، والانمحاق التام بسببها، والوقوف في وجه حركات الشذوذ، ومناهضة ما يعرف بالسياحة الجنسية، وفق خطة علمية مدروسة أكثر من أي وقت مضى، وإلا بقي المجال مفتوحاً أمام موجات الحركات الإباحية لتفرض مطالبها، وتحتل مواقع التأثير في المنظمات العالمية لكسب الشرعية القانونية والدعم المادي، والخروج بتوصيات لتفسيخ العالم، واختراق الخصوصيات “خطة إدماج المرأة في التنمية” وغيرها من المطالب الرامية إلى فك الارتباط مع القيم الإسلامية، وإعلان التبعية التامة والارتهان التام لثقافة التغريب، وتنميط السلوك، وتحرير العلاقات الجنسية بما ينسجم ورغبات الشواذ من اللوطيين والسحاقيات، ويتعارض مع مقاصد الشارع، ومصالح الإنسان بإطلاق”.

والوقع الغريب أن دولاً ومنظمات وجمعيات أصبحت تعتبر ممارسة الشذوذ الجنسي المثلي بنوعيه جزءاً لا يتجزأ من حقوق الإنسان!! وتعقد لذلك مؤتمرات تطالب بترسيمه وتدويله والاعتراف به قانونياً!! وهو ما يتناقض مع مقاصد الشارع، ويخل بمصالح الإنسان، ويعود بالبشرية آلاف السنين إلى الوراء، إلى عهد قوم لوط. ومعلوم أن كل ما يناقض الشارع، ويخل بمصالح الإنسان فهو باطل

Share:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn