سلسلة مقاصد الأسرة وأثرها في رعاية حقوق الإنسان (3)

 

مقصد حفظ النسل وسائل تحقيقه

من كتاب (مقاصد الشر يعة الإسلامية وأثرها في رعاية حقوق الإنسان : دراسة تأصلية مقارنة) د. محمد شيخ أحمد محمد “محمد حاج”

أولاً: مفهوم مقصد “حفظ النسل:

النسل في اللغة الخلق أو الولادة، ويطلق أيضاً على الولد باعتبار أنه نتيجة للولادة.
وفي الشرع يطلق على الولد والذرية التي تعقب الآباء وتخلفهم في بقاء المسيرة الطويلة للنوع البشري.

وحفظ النسل معناه: التناسل والتوالد على وجه يمكن الإنسان من الاستمرار في أداء مهمة الاستخلاف وإعمار الكون؛ وذلك أن استمرارية نوع الإنسان لا تتمّ إلاّ بالتزاوج، وإذا كانت أنواع الحيوان تتمّ استمرارية وجودها بمجرّد التزاوج الغريزي المرسل فإنّ الإنسان بالنظر إلى الدور المطلوب منه لا يمكن حفظ نوعه على الوجه الذي يقتضيه ذلك الدور إلاّ من خلال التزاوج الأسري، ومن ثمّة شرّعت الأحكام المتعلّقة بالأسرة قاصدة إلى حفظ النوع الإنساني بما يتلاءم مع الهدف من وجوده.

ثانياً: وسائل تحقيق مقصد حفظ النسل:

يتركب هذا المقصد من ثلاثة عناصر أساسية، هي عبارة عن مقاصد فرعية لهذا المقصد، ووسائل تحقيق له في الوقت نفسه، وهي:

[1] التناسل في دائرة الأسرة:

وذلك ضماناً لاستمرارية النوع الإنساني في الوجود، وقد جاءت أحكام وتوجيهات كثيرة تهدف إلى تحقيقه، منها قوله تعالى: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭯ ﭼ، فالآية تومئ إلى أنّ الزواج وهو أساس الأسرة إنّما الهدف الأوّل منه هو التكاثر لاستمرارية وجود النوع الإنساني، وهو ما تدعمه أحاديث كثيرة تحثّ على الزواج من أجل استمرارية النسل، وتحثّ على اتّخاذ الأسباب من أجل ذلك، ومن تلك الأحاديث قوله r: ” تناكحوا تناسلوا فإنّي مباه بكم يوم القيامة”، وقوله: “تزوّجوا الودود الولود”، ففي هذه الأحاديث حثّ شرعي على البناء الأسري لغاية التكاثر حفاظاً على النسل.

وتحقيقًا لهذا المقْصِد قَصَرَ الإسلام الزواج المشروع على ما يكون بين الجنسين الذكر والأنثى، وحَرَّمَ جميع صور وأشكال اللقاء خارج دائرة الأسرة والزواج المشروع، كما حَرَّمَ العلاقات الشاذة التي لا تؤدي إلى الإنجاب، ولم يُجِزْ كذلك تنظيم النسل إلا بموافقة الزوجين.

[2] حفظ النسب من الاختلاط والتداخل:

ومع أن البعض اعتبر حفظ النسب مقصداً مستقلاً في إطار مقاصد الأسرة، إلا أنه يبدو أن الفصل بينه وبين حفظ النسل في المعنى والمضمون أمر فيه صعوبة إن لم يكن فيه تكلف، وهذا ما جعل علماء الأصول يعبرون عن هذا المقصد تارة بـ”حفظ النسل” وأخرى بـ”حفظ النسب” كما سبقت الإشارة إليه، وما ذاك إلا لشدة التداخل بينهما، ولذلك اختار الباحث اعتبار حفظ النسب من جملة معاني حفظ النسل ومقاصده الفرعية، كما ذهب إليه النجار.

والنسب في اللغة هو القرابة أو في الآباء خاصة، وفي الاصطلاح: الانتساب للآباء، أو هو “رباط سلالة الدم الذي يربط الإنسان بأصوله وفروعه وحواشيه”.

وحفظ النسب معناه: القيام بالتناسل المشروع عن طريق العلاقة الزوجية الشرعية، وانتساب الأبناء إلى آبائهم “يتضمّن من المعاني الاجتماعية والنفسية والصحّية ما يكون به النسل أقوى من حيث ذاته، وأقدر على الاستمرارية والبقاء، إذ الأنساب المحفوظة تقوّي من الانتماء الاجتماعي للفرد، كما تقوّي نفسياً من الشعور بالثقة بالنفس والاعتزاز بالمحتمع. وما كانت عناصر القوّة هذه كلّها لتحصل إذا اختلطت الأنساب وجُهلت القرابات”.

ومن جملة الأحكام الشرعية التي جاءت محققة لمقصد “حفظ النسل” بـ”حفظ النسب” من الاختلاط والتداخل: الأحكام المتعلّقة بتحريم الزنا، وتحريم التبني، ومنع الزواج من المحارم، والنهي عن الزواج من الأقارب، والأحكامُ الخاصة بالعِدَّةِ، وعدمِ كَتْمِ ما في الأرحام، والرضاعة، وإثباتِ النسب وجحدِه، وغيرها من الأحكام.

[3] رعاية الذرية وتربيتها:

ويشمل ذلك رعاية وتربية الجوانب النفسية والعقلية والجسمية للأطفال، فرعايتهم من قِبل الأسرة من هذه الجهات كلّها من شأنها أن تثمر نسلا قويّا قادرا على المقاومة من أجل البقاء سواء بالتدبير العقلي أو بالصحّة الجسمية والنفسية .. وليس لهذا الدور التربوي أن تقوم به إلاّ الأسرة، إذ غيرها من هيئات المجتمع مثلا لئن كان بإمكانها توفير أسباب الصحّة الجسمية فإنّه ليس بإمكانها توفير أسباب الصحّة النفسية. ولذلك جاء الدين يشرّع أحكاما كثيرة في شأن الأسرة مقصدها تمكين النوع الإنساني من أسباب البقاء بالتربية الأسرية، وذلك مثل أحكام النفقة والحضانة والتعليم والرعاية الصحّية وما هو في حكمها من كلّ ما يتعلّق بتربية الأطفال ورعايتهم.

فيتحصّل إذن أنّ حفظ النسل بتمكينه من الاستمرارية والبقاء هو مقصد أساسي من مقاصد أحكام الشريعة في الأسرة، وذلك سواء بأصل الزواج المثمر للذرّية، أو بحفظ الأنساب أو بالرعاية والعناية.

Share:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn