(٤) للمقصد أيضاً صِفَاتٌ وصِبْغَاتٌ:
هذه هي الحلقة (٤) الرابعة في رحلتنا الفكرية الماتعة مع المكفر والفيلسوف الإسلامي المغربي الدكتور طه عبدالرحمن في تفكيكه وتحليله وتركيبه لعلم القاصد بدأً من كلمة “قصد” والتي – بعد تشريحها – جعل لها ثلاثة مفاهيم، ثم جعل لكل مفهوم مضمونا، ولكل مضمون نظرية، وجعل لكل ذلك خيطاً جامعا ناظماً لها، الذي هو “الأخلاق”.
ثم جعل لكل مفهوم من المفاهيم الثلاثة (قصد بمعنى المقصود، وقصد بمعنى القُصود، وقصد بمعنى المقصد)، صفة أخلاقية لها صبغتان.
والدكتور طه لا يقول فقط مُفْهِمَاته ويتركها، بل يستصحب المفهمة من ولاتدها من الكلمة المفردة، إلى أن تتركّب الكلمة و يصبح لها مصطلحا له مضمون أو مضامين قد تتشعّب. ولا يتحرك إلى الأمام خطوة إلا وهو يعرف ما هو الخيط الناظم بين ما قاله قِدْماً و ما يقوله آناً أو ما سيقوله قادماً، ولذلك يُكوِّن شبكة علاقات محكمة تربط بين المفهمات والمصطلحات من بداية الموضوع إلى نهايته، فما أبهم عليك في مرحلة من التشريح والتحليل وإعادة التركيب، يَتبيَّن أو يُبيِّن لك في مرحلة أخرى أو موضع آخر. فقلما ما تجد كاتباً أكثر قدرة على تَبْيِين مرامي كلامه ومقاصده.
نتناول في هذه الحلقة (٤) المفهوم الأخير من المفاهيم الثلاثة لكلمة “قصد” وهو “المقصد”، وعلى المنهجية السابقة نفسها. وقد جعل د. طه للمقصد أو صافاً أخلاقية، وجعل لكل صفة أخلاقية صبغتان حيث يقول:
١- “الأوصاف الأخلاقية للمقصد الشرعي:
نذكر من الأوصاف الأخلاقية التي تخص العنصر المقصدي الثالث، وهو بالذات “المقصد” وصفين رئيسيين: أحدهما، “الصِبغة الحكمية” (بكسر الحاء)، والثاني، “الصبغة المصلحية.
أ- الصبغة الحِكمية للمقصد الشرعي:
يقترن الحكم الشرعي بغاية معينة تنزل منزلة القيمة التي يتوجه فعل المكلّف إلى تحقيقها والتي تبلغ النهاية في الإتقان والكمال، حتى اختصت باسم “الحكمة”. وقد أدى النظر في الحِكَم (بكسر الحاء وفتح الكاف) التي تقترن بالأحكام الشرعية إلى إتخاذ طريق خاص في تعليل الأحكام وفي الإستدلال عليها”.
لقد اعتمد الفقهاء على التعليل بالأوصاف وهو الغالب عندهم، وهو “التعليل السببي) حسب تعبير الدكتور طه، ويرى أن التعليل السببي “يقوم على أحكام موضىوعة وقوانين مجعولة وعلى ربط الأسباب بالمسبّبات. وأما التعليل بالحِكَم، فهو تعليل بالغايات، ومثاله في حالة إباحة الإفطار عند المرض هو “دفع المشقة أو “التيسير” فيكون التيسير إذن علة غائية يصير بموجها الإفطار مباحاً”. ويسمي د. طه هذا التعليل، “التعليل الغائي” ويضيف قائلا: “فبَيِّنٌ أنه يقوم على أحكام قيمية وسنن معنوية وعلى ربط الأسباب بفاعلها. وقد جمع بعض الأصوليين، لا سيما أهل المقاصد منهم، بين التعليلين: السببي والغائي، بحيث وقفوا التعليل السببي عل التعليل الغائي، فيصير الوصف الذي يُعلّل به الحكم تعليلا سببيا مشروطاً بحصول الغاية من الحكم؛ ومثاله: إذا كان المرض وصفاً جعله الشارع سببا لإباحة الإفطار، فإن هذه السببية لا تعمل عملها إلا إذا استُوفِيَ شرط الغاية، وهو التيسير. وقد اصطلح الأصوليون على تسمية تعليق السبب بالغاية باسم (المناسة)، فيكون التيسير، في هذا المثال، شرطاً في مناسبة المرض لإباحة الإفطار”.
ولذلك إنقسم الأصوليون في مسألة تعليل الأحكام إلى ثلاثة أقسام: قسم أخذ بالتعليل السببي، وقسم ثان اعتمد على التعليل الغائي، وأما القسم الثالث فقد جمع بين التعليلين: وتبعا لقول الدكتور طه، فإن المالكية هم أكثر علماء المسلمين انتسابا لهذا القسم الثالث (الجمع بين السببية والغائية)، ويُعلل المؤلف بذلك أن للمذهب المالكي توجيهات عملية وخلقية تيميز بها “كما تظهر في اختصاصه – أي المذهب المالكي – بمصدر في التشريع هو عمل أهل المدينة”. ويري (د. طه) كذلك أن الذين اهتموا بعلم المقاصد من المذاهب الأخرى كانوا ممن سيطرت عليهم “نزعة أخلاقية كالغزالي والعز بن عبد السلام من الشافعية وكابن تيمية وابن القيم من الحنابلة وغيرهم”.
ب – ” الصبغة المصلحية للمقصد الشرعي:
ما من غاية تقترن بالحكم الشرعي إلا وتشتمل على مصلحة معينة، غير أن هذا المفهوم عَرَضَ له لبس لا يقل عن اللبس الذي عرض لمفهوم المقصد إن لم يكن حاله فيه أشد، حتي صار عند البعض دالا على المنفعة المادية الصرف، والتحقيق أن الأصل في المصلحة هو الخُلُق؛ ذلك أن لفظ “المصلحة” الذي اشتُقَّ من الفعل: “صَلَحَ” أو الفعل: “صَلُحَ” على وزن دال على اسم المكان يراد به أساساً المحل المعنوي الذي يقع فية صلاح فغل المكلّف، أو قل، بإيجاز، إن المصلحة هي موضع الصلاح”.
وبعد هذا النقاش الطويل في المفهوم الثالث لكلمة “قصد” الذي هو “المقصد”، يُجمِل الدكتور طه عبدالرحمن كلامه مُلخِصاً مع بَعْضٍ المفاهيم الثلاثة لكلمة “قصد” وهو يُرتب حسب ترتيبها الذي تناولناه في الحلقات قائلا:
“وحاصل الكلام في الأوصاف الأخلاقية للمقاصد الشرعية، أن “المقصود” الشرعي معنوي وفطري، وأن “القصد” إرادي وتجريدي، وأن “المقصد” حكمي (بكسر الحاء) ومصلحي، علما بأن المصلحة هي المحل المعنوي لتحقيق الصلاح، وعلى هذا ، يكون علم المقاصد هو الصورة التي اتخذها علم الأخلاق للاندماج في علم الأصول؛ وبإثباتنا أن الأخلاق علم متداخل مع الأصول، تم البرهان على الركن الأول من دعوى التداخل الداخلي الأصولي”.
وبهذه الخطوة، انتهت الأوصاف الأخلاقية لكل من “المقصود الشرعي” و “القصود الشرعية” و “المقصد الشرعي” ويأتي بعدها إفادة الأخلاق لهذه المفاهيم الثلاثة.
تقديم وتلخيص:
عمر إدريس
1/5/2020