فقه العمل والكدح والإنتاج

الحمد لله  الذي بنعمته تتم الصالحات، وبرحمته تُغفر الزلات والخطيئات، والصلاة والسلام على نبينا محمد-وآله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فالإسلام يحث على العمل، ويحارب الكسل والاتكالية، ويدعو إلى الجد وبذل الجهد من أجل تحصيل الرزق، والانتفاع بطيبات الحياة وإعمار الأرض وإصلاحها.

وقد ضرب الرسول- صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه أروع الأمثلة في الجد وممارسة العمل والنزول إلى ميدان الحياة، فلم يستخفوا بالعمل، ولم يحتقروا العاملين، بل كرموا العمل والعاملين، واستنكروا الخمول والاتكالية والكسل، لأن العمل في عرف الإسلام هو بذل الجهد من أجل إشباع حاجة إنسانية محللة، وهو ضرب من ضروب العبادة، وتحقيق لإرادة الله وحكمته في الأرض، والسعي لبناء الحياة وفق مشيئته سبحانه وتعالى.

فقد غاب عن عناية الفقهاء القراءة الدقيقة للنصوص القرآنية التي تحض على السعي والكدح والإنتاج، وتنهي عن التواكل والتعطيل للطاقات، وقد فاخر الأوربيون بأن أحد مسببّات النهضة الأوربية الحديثة والمعاصرة، هو تقديس المصلحين البروتستانت للعمل، وقد عمّق الأمريكيون الذين ينتمي جلهم لهذا المذهب الديني الإصلاحي من فكرة العمل، عندما ربطوا السعادة بالمثابرة والجدّ، فهم لا يرون السعادة خارج إطار الإنتاج والعمل، الأمر الذي أفضى إلى حيوية تكاد لا تتوقف، والحوافز نفسها نلمسها في دينامية الشعب الألماني، وثمة شعب آخر ترفع معتقداته العمل إلى مستوى التقديس وهو الشعب الياباني.

في المقلب الآخر، أي في اجتماعنا الإسلامي عجز الفقهاء الذين يتولّون -عادة- مهام هندسة السلوكيات ورسم أطرها من خلال المنظومات الفقهية المستنبطة، عجز هؤلاء عن تثمير الخطاب القرآني الداعي إلى السعي والانتشار في الأرض حيث قال تعالى:  (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) سورة الملك.

وقال تعالى أيضا: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) سورة الجمعة.

والدعوة لم تكن بصيغة الإقرار بواقع الحاجة والإمضاء لعادات أَلفها الناس، وإنما بالطلب الذي يفيد الأمر والحثّ والمثابرة، وعندما يربط القرآن الكريم الدنيا بالكدح المتواصل الذي لا ينفك، مطلقا عن الحياة، فمعنى ذلك، أن السعادة مقرونة بهذا البذل المحبّب والملازم للحياة، ما دام هناك عرق ينبض، بدلالة” فاء” الفورية (فملاقيه) قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) سورة الجمعة.

وتتّسق الآيات التي تربط بين الأكل الحلال والجهد، في المعنى نفسه الذي تبوح به النصوص القرآنية الكريمة كيفما اتجهت وقلّبت المعنى، ألا يدل ذلك على التلازم بين العمل والسعادة التي هي مقصد مفصلي من مقاصد الدين.

وفرق كبير بين النظر إلى العمل باعتباره مفضياً إلى الراحة التي يتوهَمها الإنسان محقّقة في الدنيا، وبين توطين النفس على أن الراحة والطمأنينة لا يتوافران إلا بتفريغ الطاقة المودعة في الإنسان، سواء أكان ذلك عملا ذهنيا مشفوعا بالتجربة، أم عملا عضليا متواصلا يُفرغ الإنسان من خلاله طاقته البدنية المختزنة في هيكل يمتلك كل مؤهلات التجدد والتخزين (انظر، مجموعة بحوث، مقاصد الشريعة وقضايا العصر، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، ط2، 1438/ 2017م، ص72- 73)..

ولكي يحقق الإسلام فكرته هذه، جعل إشباع الحاجات الشخصية واجبة من حيث الأساس على الإنسان نفسه، لكي لا ينفر عن الكسب ومباشرة العمل بنفسه، فإن هو عجز عن توفير حاجاته كاملة، انتقلت مسؤولية إشباع هذه الحاجات منه إلى غيره.

والإنسان في حالته الطبيعية يجب أن يعمل ويكسب، ففي كيان الإنسان قوى حركية وفنية، وعقلية ضخمة بإمكانها أن تتفاعل مع عناصر الطبيعة، فتوفر الحاجة للجميع، وأن تبعد الفقر والجوع والحرمان عن كل إنسان يعيش على هذه الأرض، لأن الله تعالى قد جعل في كل إنسان من القدرة والطاقة ما يُمكِّنه من توفير لوازم الحياة، ومستلزمات العيش إذا أُفسِح له المجال.

 

بقلم الأستاذة

حفصة عبد الله أحمد (سهل)

Share:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn