قراءة كتاب: “إسهام علم النفس في خدمة مقاصد الشريعة الإسلامية”

قراءة كتاب 

عنوان الكتاب:

“إسهام علم النفس في خدمة مقاصد الشريعة الإسلامية” للدكتور: سعيد الشوية

بقلم: د. فاطمة حوش

يعتبر كتاب إسهام علم النفس في خدمة مقاصد الشريعة الإسلامية، من المحاولات المثابرة والطامحة، التي تدفع علم النفس الحديث ليجد مكانته الفعلية ضمن الصحوة المقاصدية التي احتلت تفكير المسلم المعاصر الذي يريد من خلال مسلكه العلمي أن يجمع حسب تعبير د. “وصفي عاشور” بين الثقافتين؛ ثقافة العلوم الإنسانية، وثقافة العلم الشرعي، وذلك لإنتاج المعرفة الجديدة المبدعة.

انطلق دكتور سعيد الشوية في تأليفه لهذا الكتاب من فكرة أساسية وهي: ” أن علم النفس الذي لا يناقض مبادئ الإسلام يخدم بضرورة مقاصد الشريعة”، ونجد بأن تلك الفكرة تتضح أكثر في فصول الكتاب ومباحثه، فالكتاب يستهل بتعريف لمصطلحي (المقاصد- النفس) بشكل منفرد، يتناول فيها الجانب اللغوي أولاً، ومن ثم يُسهب بالجانب الاصطلاحي، فذكر بأن مصطلح النفس عندما يتعلق ذكره في القران الكريم، يأخذ معاني ودلالات متعددة، مرتبطة كلها بالإنسان، مرة تدل على الإنسان كاسم إشارة له، ومرة على أخيه ، وتارة متعلقة بروح، وأخرى على الضمير، ومرة على العِنْد.

وأيضاً توقف عند نظرة الفلاسفة للنفس، فالنفس عند فلاسفة اليونان منفصلة عن الجسد، ولها أنواع وأحوال، وقد وافقها الفيلسوف المسلم (ابن سيناء) وخصوصا في تعريف “أرسطو” الذي يرى أن النفس: “كمال أول لجسم طبيعي آلي أو لجسم ذي حياة القوة”، ولا يختلف الإمام الغزالي في نظرته للنفس عن أرسطو وابن سيناء مع أن الغزالي أطال الحديث عن معاني الألفاظ المترادفة الأربعة وهي: النفس، والقلب، والروح، والعقل، وقد خالفه في ذلك الإمام الرازي الفيلسوف المسلم  الذي أسهب في الاهتمام بدراسة النفس، نراه يتحدث باختصار فيما أسهب فيه الغزالي. ومن خلال ما سبق نرى أن الدكتور سعيد الشوية عندما تحدث عن النفس عند الفلاسفة اختصر فقط على بعض فلاسفة اليونان والمسلمين، في حين غاب عن الطرح مدارس فلسفية أخرى تحمل أطروحات جيدة عن النفس، وهنا قد نفهم أن الكاتب أراد من هذا الاختصار أن يقدم أهم وجهات النظر أو أشهرها، وأيضاً كونه لم يشأ أن يقدم كتابا موسوعيا، أما من جانب آخر، فإن هذا الاختصار أفقد الكتاب الكثير من القيمة الفلسفية، التي كان من الممكن أن يضيف إلى معرفتنا للنفس البشرية.

بعد هذه المقدمة أوغل الدكتور الشوية في صلب موضوع الكتاب، وهو يفتتح حديثه بذكر تقاطعات علم النفس ومقاصد الشريعة الإسلامية، مستحضراً أن العناية التي أولاها الإسلام بالإنسان تفوق عنايته ببقية الحيوانات، والاهتمام الذي أولتها تخصصات علم النفس المختلفة للإنسان وسلوكه ورفاهيته وسعادته وصحته النفسية، لما كان الأمر كذلك، كان هناك تقاطع بين الإسلام وعلم النفس من حيث غايتهما وأهدافهما.

أما الحاجة إلى التأصيل الإسلامي لعلم النفس، فقد استشهد الدكتور الشوية بعبارات الدكتور أسامة عطية المزيني الذي يقول: لو كان علما محايدا (يقصد فيه علم النفس) أي عبارة عن مجموعة من الحقائق العلمية المجردة كالرياضيات والفيزياء، لما كان مسوغ للحديث عن ضرورة تأصيله في إطار ثقافي معين”، وبعبارة الدكتور وائل أبي هندي الذي قال” أريد أن أكون عربيا مسلما، أتعامل مع أنفس تحتوي على خصائص وثراء ثقافي”. هذه الأزمة التي يعيشها علماء النفس المسلمين، والتقليد الأعمى لعلم النفس الغربي، دفعت جمعا من العلماء إلى الحديث عن ضرورة تأصيل إسلامي، يكون بديلا للعلم النفس الغربي، وفي ذات الوقت يكون صالحا للمجتمعات الإسلامية.

يذكر دكتور الشوية بأن دعوة التأصيل الإسلامي لعلم النفس لقيت صدها، خصوصاً مع معاناة علماء النفس المسلمين من التناقضات المعرفية، والصدمة السيكولوجية والغربة المعرفية التي يوجهونها، وعلى هذا الأساس تم تقسيم علم النفس الحديث إلى علم نفس مُخالف لمقاصد الشريعة الإسلامية ومناقض لها، وعلم نفس موافق لمقاصد الشريعة الإسلامية ولا يخالفها في الغالب، ومن هذا الأساس ظهرت مؤسسات علمية تحمل هم مشروع التأصيل الإسلامي لعلم النفس، وبحوث ودراسات في علم النفس من وجهة النظر إسلامية، وبحوث اختصت ببيان مشروع التأصيل الإسلامي لعلم النفس، وبحوث اختصت بالدراسة النظرية للتراث النفسي عند علماء الإسلام، وبحوث أخرى في الجانب الميداني والتجريبي ومنها علم النفس والحياة.

وبما أن علم النفس هو ارتحال إلى أغوار النفس البشرية، والدخول إلى الذات والإبحار في طبيعتها، فالرحلة النفسية تتطلب فهماً شاملاً وقويماً، يستند على منبت صحيح وواقعي، فليس هناك أفضل من التصور الإسلامي للإنسان، وانطلاقاً من هذا التصور، تذهب جميع مقاصد الشريعة الإسلامية إلى تحقيق مصالح  الإنسان في الدنيا والآخرة، في العاجل والآجل، ومصالح الناس في الدنيا هي كل ما فيه نفعهم وفائدتهم وصلاحهم وسعادتهم وراحتهم، وكل ما يساعدهم على تجنب الأذى والضرر ودفع الفساد، إن عاجلاً أو آجلاً، لذلك  أفرد الدكتور الشوية فصلاً كاملاً بمباحثه، يستعرض فيه مقاصد الشريعة التي جاء الإسلام بها لحفظ الضروريات الخمس، وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض، وحفظ المال، وإسهامات علم النفس في هذه المقاصد، وهنا نجد بأن الرؤية الدكتور الشوية تختلف عن رؤية الدكتور توفيق علي مراد زبادي، صحيح كلاهما حاول ربط علم النفس بالشريعة الاسلامية، لكن دكتور توفيق أخذ علم النفس من زاوية (مقاصد النفسية في الأحكام الشرعية) أي أن الشريعة راعتْ في أحكامها النفس البشرية، أما الدكتور الشوية فهو يطرح إسهامات علم النفس( يعني إضافاته) في خدمة مقاصد الشريعة.

بدأ الحديث بمقصد حفظ الدين، وذكر بأن الدين هو أهم شيء يمتلكه الإنسان، وعلم النفس الحديث يدرس أهمية الدين لا ليكتشف كونه حقا أو باطلا، بل لمجرد سلوك إنساني، وتأثير هذا السلوك حتى يستطيع التنبؤ، فالنزعة المادية التي كانت طاغية على الدراسات النفسية جعلتهم لا يوجهون أي اهتمام نحو الجانب الروحي للإنسان، إلا في حدود ضيقة،  لكن في الأوقات المتأخرة وخصوصاً مع بروز أصوات تدعو إلى إعادة النظر في الدين باعتباره جزء محوري في حياة الإنسان، بدأت بوادر حركة الاتجاه الديني في الغرب كنظرية للعلاج النفسي، ومع هذا التوجه العالمي واستمرار تبلور الرؤية الإسلامية النفسية التي لا تكتفي بالدراسة والتنبؤ، بدأ توجه المعالجين المسلمين نحو إعلاء مقصد حفظ الدين من خلال توظيف القيم الدينية والأخلاقية، والاستفادة من النصوص الإسلامية في عمليات المعالجة والتربية، والإرشاد وتقويم الذات، والاستفادة من نظريات علم النفس في الدعوة إلى الإسلام، والدفاع عنه عسكرياً وإعلامياً، ومجابهة الإلحاد باعتبار مشكلة الإلحاد مشكلة نفسية واجتماعية وشخصية أكثر من كونها مشكلة فكرية، وكذلك إظهار قوة الدين الإسلامي في المجال الاجتماعي وحل مشكلات الإنسان المُعاصر، والذي شجع حركة أسلمة علم النفس أكثر هي ظهور كتابات عميقة ترى ” بأن الصحة النفسية أساسها سلامة العقيدة، وسلامة النفس والجسد من الأمراض والانحرافات والأهواء، وسلامة العلاقات الاجتماعية بين الفرد والجماعة.

في مقصد حفظ الجسد، نجد طرح الدكتور الشوية يتفق مع معقولية وصحة المقولة التي تقول” الجسم السليم بالعقل السليم”، فالصحة الجسمية هي الوجه الأخر للصحة النفسية، بمعنى أنهما مرتبطان بشكل تبادلي، فالحالة النفسية تؤثر بصحة الإنسان الجسدية، ومدى قابليته للحياة والحركة، لذلك يعمل علم النفس بتخصيص فروع منه مثل علم النفس الصحي؛ الذي يهتم بدراسة تأثير العوامل النفسية التي تُحافظ على الصحة أو التي تؤثر فيها، وكذلك فرع علم النفس الإكلينيكي الذي يركز بشكل كبير على مشكلات الصحة العقلية.

وبشكل عام فالأخصائيون النفسيون يطبقون البحث النفسي ومناهجه في مجالات أربعة وهي: الوقاية وتدبر الأمراض، وتحديد العوامل النفسية والسلوكية التي تُساهم في إصابة الأمراض الجسدية، وحماية الصحة العامة والحفاظ عليها، وتحسين نظام الرعاية العامة وصياغة السياسات الصحية وبما فيها بيئة الإنسان. وكل ما سبق يعمل على حفظ جسد الإنسان بعلاجه من الأمراض السيكوسوماتية، والإسهام في التقليل والحد من ظاهرة الانتحار من خلال سد منابع التي تنطلق منها الأسباب. كذلك يخصص علم النفس فرع علم النفس الجنائي، الذي يضع في دائرة اهتمامه بدراسة السلوك الإنساني في إطار تعامل هذا السلوك مع القانون والجريمة.

وكل الجهود التي يقدمها علم النفس في حفظ الجسد يقول الدكتور الشوية بأنها تكون أكثر عمقاً إذا وجدنا تتوافق وتستند على الثابت الإسلامي الذي يؤطر صحة الجسدية وبمنظور ديني، فالدين الإسلامي أباح الطيبات ونهى عن تحريمها لما في تحريمها ضرر جسدي، وحرم قتل النفس أو الاعتداء عليها، أو حتى تعريضها للهلاك او جعلها تتعاطى الخبائث التي تضر الجسد، باعتبار أن الجسد ليس للإنسان حرية التصرف فيه، فلا يحق له العبث بها، ليس ذلك فقط، بل مسؤول عنها، ويُحاسب عنها يوم القيامة.

يقول الدكتور الشوية بإن الطرح الإسلامي في حفظ الجسد لا يقتصر على الأحكام التشريعية، بل اعتمد كذلك على الحفظ الجبلي لهذا المقصد، حيث ركب في الانسان الدوافع الفسيولوجية والفطرية التي تدفعه إلى حفظ الجسد، مدافع الجوع، والعطش، وغيرها من ودافع حفظ الذات.

حفظ النفس أو كما عنونها الدكتور سعيد الشوية مقصد حفظ الصحة النفسية، فيذكر بأن صلاح الإنسان والمجتمع إنما يتم عن طريق العناية بجوانبه النفسية؛ ويستدل على ذلك قوله ( ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ يَكُ مُغَيِّرٗا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ) الأَنفَال : 53…”، وهذه الآية تشير إلى أن تغيير ظروف الإنسان يتوقف على تغيير جوانبه النفسية، لذلك اعتنى الإسلام بالنفس والحفاظ عليها من جانبين: الجانب الوجودي، وذلك بوضع الضمانات أساسية عن طريق تربيتها وتزكيتها وتطهيرها وتنمية الجانب الإيجابي فيها، وحمايتها ووقايتها من الاضطرابات والأمراض المعنوية، وكذلك من الجانب حفظ الصحة النفسية من العدم؛ من خلال النفس من الضجر والغضب وارتكاب المعاصي، ويستشهد الدكتور الشوية بتأكيد الراغب الأصفهاني الذي ذكره في كتابه ” تفصيل الناشئتين وتحصيل السعادتين”، بأن النفس لها عوارض هي نجاسات وأمراض نفسية يلزم إماطتها كالجهل والشر وغيرها.

يذكر دكتور الشوية بأن الذين تحدثوا عن المقاصد قديما، حين تفصيلهم القول في المقصد حفظ النفس في الغالب يقتصرون على بيان حفظها من الجانب المادي باعتبار الحفظ المعنوي من الحاجيات وليس من الضروريات، أما الاهتمام بالجانب المعنوي وجه بعض الباحثين المحدثين أمثال الدكتور جمال الدين عطية، والدكتور عبد المجيد النجار اللذين أكدا بأن حفظ النفس من الجانب المادي لا يستقيم دون حفظ الجانب المعنوي، وبررا ذلك بأن النفس كيان معنوي وروحي ونفسي، وحفظه لا يكون إلا بحفظ هذه الجوانب جميعاً.

وعلم النفس عندما تعامله مع النفس تعامل معها بوصفها” حالة دائمة نسبيا، يكون فيها الفرد متوافقا نفسيا (شخصيا وانفعاليا واجتماعيا، أي مع نفسه ومع بيئته) ومن هذا المنظور نجد عالم النفس أيضاً يراعي النفس من الجانب الوجودي؛ وذلك بقوة الصحة النفسية، مستعملاً وسائل وأدوات خاصة، كالتوجيه والإرشاد النفسي تحت فرع علم النفس الإرشادي، الذي يقوم في الأساس على تحقيق مقصد حفظ الصحة النفسية بالاستناد على المنهج الإنمائي؛ وهو المنهج الذي يتضمن الإجراءات التي تهدف إلى التعامل مع الأسوياء والعادين أساسا، لتحقيق زيادة كفاءة الفرد وتدعيمه.

وأيضا يراعي علم النفس “النفس” من الجانب المعنوي، وذلك بتسييجها من الجانب الذي تأتي منه أسباب اختلالها، اعتمادا على المنهج الوقائي؛ الذي يطلق عليه أيضا منهج التحصين النفسي، الذي يعمل على الحيلولة دون حدوث الاضطرابات النفسية، والكشف المبكر عن أي اضطراب محتمل، والتقليل من الآثار التي تُسببها الاضطرابات النفسية. وكذلك يعتمد الجانب المعنوي على المنهج العلاجي الذي يهتم بنظريات الاضطراب والمرض النفسي، وأسبابه وتشخيصه وطرق علاجه، ويتم كل ذلك تحت مسمى علم النفس العلاجي، وعلم النفس الإكلينيكي أو علم النفس العيادي.

وفي مقصد حفظ النسل أو حفظ (العرض)، نجد بأن منظومـة المقاصـد التـي تسـعى إلـى دفـع المفاسـد عـن العبـاد، وجلـب المصالـح إليهـم، تتجلى فيه بشكل أوضح، فيذكر الدكتور الشوية بأن حفظ النسل من المنظور المقاصدي يقوم على: حفظ جبلي أي حفظ غرائزي يتمثل في الأوامر التكوينية التي خلقها الله في عباده، من غريزة الجنس، وغرائز العاطفية الأخرى، والحفظ الشرعي أي الأحكام الشرعية؛ وذلك جملة من النصوص التشريعية التي تدعو إلى الزواج، وترغب في الإنجاب.

أما إسهام علم النفس في هذا المقصد، فيستحضر الدكتور سعيد الشوية اهتمام علم النفس العميق بالسنوات الأولى من حياة الإنسان، والتي تعتبر السنوات الأساسية والمؤثرة في تكوين الفرد وبجميع جوانب نموه.

وإسهامات علم النفس في خدمة مقصد حفظ النسل يتضح أكثر في الطريقة التي  ترى فيها السبيل المناسب لحل مشكلات الأسر، باعتبار الأسرة المحضن الأول الذي ينشا فيها النسل، ويستند الإسهام على الجانب النظري والتطبيقي في تحقيق التوافق الزواجي والأسري، من خلال كشف أو التعرف على المشكلات النفسية للآباء و الأبناء، والأزواج، ومعاونة الأسر على إنجاز وظائفها المتعددة، وإعطاء الإرشادات والتوجيهات المناسبة لأفراد الأسرة  وتقديم فهم علمي عميق يفسر ويتفهم ويتحكم بسلوك الأطفال، ودراسة مراحل نمو الإنسان وتطوره، وأعطى علم النفس اهتماما كافيا للنمو الجنسي وبشكل أعمق على الجانب الوقائي منه.

هنا نجد بأن الدكتور الشوية سمى بعض الفروع علم النفس التي تعمل بشكل مباشر مع النسل مثل سيكولوجية الطفل أو علم نفس الطفل، وعلم النفس الإكلينيكي، وعلم النفس النمو، أو ذكر بعض الفروع ضمنياً مثل الإرشاد الأسري، والإرشاد الزوجي، والصحة النفسية.

حفظ العقل؛ ذكر الدكتور الشوية بأن حفظ العقل من الضروريات المشتركة بين الكتب والشرائع السماوية، وعندما يكون الحديث عن الشريعة الإسلامية، فإن الشرع الحكيم حفظ العقل من جانبين؛ أوّلهما: الحفظ المادي للعقل أو من الجانب الوجودي: يقصد بالحفظ المادي، هو حفظ الجسم فإن فيه حفظ للعقل في بعده المادي، أي بالامتناع عن كل ما قد يضر بالجسم والذي يضر بالضرورة وتبعاً بالعقل، ويؤثر في وعي الإنسان وإدراكه ويسبب له فقدان الذاكرة وصعوبة في التوزان والحركة.

أما حفظ العقل من الجانب المعنوي: وهو الجانب الذي لم يتوقف أمامه علماء الأصول والمقاصد إلا إشارات قليلة، مع أن نصوص الشريعة قرآناً وسنة حافلة بالأحكام التي تعنى بالحفظ المعنوي، ومنها: حفظ العقل بتعلم المهارات والمعارف وتشجيعه على الفهم والاستيعاب والتأمل والتفكير، والاهتمام بصلاح العقل من خلال تحريره وإصلاح عقيدته.

وإسهامات علم النفس، شملت أيضا الجانب المادي وما يتعلق بالبنية الدماغ والأعصاب المرتبطة به، باعتبار أن السلوك ما هو إلا نتاج للجهاز العصبي، لذلك نجد في علم النفس فروع عديدة تُحاول دراسة العقل والعمليات العقلية، ووظائف أعضاء الحس، والوقوف بالتحليل والنظر على أسباب الأمراض والانحرافات العقلية وعلم الجريمة وعلم الصحة العقلية.

وحيال الحفظ المعنوي؛ يسهم علم النفس في الحفظ المعنوي من خلال: دراسة مراحل النمو العقلي، والاهتمام بالعملية التعليمة والتحسين والرفع من جودتها والارتقاء بها، والبحث في البنية المعرفية للمخ الإنساني، وتطوير جملة من القياسات والاختبارات التي تُقيس الذكاء والقدرات العقلية الأخرى، مما يُساهم على مساعدة العملية المعرفية والتعليمة، وتقدم العون والمساعدة لذوي صعوبات التعلم، والتأهيل المعرفي لمرضى المخ. نجد أن الدكتور الشوية في المقصد حفظ العقل قدم حصيلة معرفية خصوصاً في ما يتعلق بجانب إسهامات علم النفس، وذلك يرجع إلى طبيعة علم النفس الذي يستند على دراسة محركات السلوك الإنساني، والعقل هو المحرك الرئيس للسلوك البشري بجانب محركات أخرى، لكن العقل يظل هو الهدف الرئيس لأغلب دراسات علم النفس خصوصاً التجريبية.

حفظ المال؛ هو المقصد الذي يُخاطب النفوس، لأن النفوس جُبلت على حبه، وهو أيضا المقصد الذي يخاطب الواقع، لأن المال هو الحبل الشوكي لأي أمة، فقوة المال لدى الأمة هو كفيل بالاستقرار الداخلي واستقلال نظامها السياسي.

عمد الشرع الحكيم في حفظه للمال إلى سن أوامر تكوينية؛ ما يتماشى مع الشهوة البشرية التي تجنح إلى حب المال، فأخذ بأسباب هذا الميل البشري مما يؤدي إلى استثماره وتنميته في الإنتاج الزراعي أو الصناعي أو التجاري، وإلى جانب ذلك وضع الأحكام التشريعية الثابتة والمتغيرة التي تصبوا إلى حماية المال من التبذير والاعتداء.

وعلم النفس أوسع في الدراسة والبحث وتحت فروعه المتنوعة، مما يزيد الإنتاج الكمي والكيفي والإبداعي، والإنتاج يقوم على أفراد ومجتمعات، فقد أفرد علم النفس فرعا لدراسة الفروق الفردية بين الأفراد وآخر لدراسة الشخصية وقدرات الفرد والأمراض والخلل الذي قد يُعيق الفرد وإنتاجه، وفروع لدراسة المجتمعات الحاضنة للاقتصاد، وأسباب التي تجعل من بعض المجتمعات منتجة وأخرى غير منتجة.

الخلاصة:

حاول الكاتب في كتابته لهذا الكتاب تقديم وجهة نظر شاملة، في استحضار إسهامات علم النفس في خدمة مقاصد الشريعة الإسلامية، دون سرد التفاصيل والجزئيات، فقد أحال الكاتب لمن أراد الاستزادة إلى جملة من المراجع أوضحها في الهوامش.

ونجد بأن طبيعة الكتاب دفعت الكاتب إلى تبني العديد من المناهج؛ مثل المنهج الاستقرائي الذي لاحظناه في تتبع الآيات القرآنية ونصوص الحديث الشريف، وبعض الأطروحات النفسية، وكذلك اعتمد الكاتب على المنهج التحليلي وتحليل النصوص؛ خصوصاً في تحليل النصوص المستقرة، والوقوف على المعاني والمقاصد الدقيقة التي حملتها. أما المنهج التاريخي؛ فقد استبان في بعض المواقف العلمية التي بدأت ثم تطورت، وسواء كان هذا من الجانب المقاصدي، أو من جانب إسهامات علم النفس في خدمة مقاصد الشريعة.

برع الكاتب في إيضاح فكرة خصوصية وشمولية الطرح الإسلامي، وما يحتويه من مقاصد وأحكام تتوافق مع الطبيعة الإنسانية والكونية، ومن هذا المنطلق حاول إيجاد ما يثبت امتلاك الطرح الإسلامي الجانب النظري والتطبيقي للعلوم الإنسانية بشكل عام وعلم النفس بشكل خاص، طرحاً ينبثق من ركائز ثابتة، لا تتنافى مع المشترك الإنساني العلمي، بل أوجد إمكانية المزاوجة بينهما، واستخراج منهجًا علمياً متمايزًا وناضجًا.

أخيراً؛ دكتور سعيد الشوية الحاصل على دكتوراه في أصول الفقه ومقاصد الشريعة، من الناشطين في الكتابة المقاصدية، وله عدة مؤلفات إضافة إلى كتابه إسهام علم النفس في خدمة مقاصد الشريعة الإسلامية، مثل كتاب قواعد الاحتياط: دراسة مقاصدية، وكتاب قواعد فقه الموازنات: دراسة مقاصدية، كما له عدة مقالات وأنشطة علمية يذهب أغلبها إلى حقل مقاصد الشريعة الإسلامية.

 

 

 

 

 

 

Share:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn