في خلق وحدة ثقافية وإيجاد وئام اجتماعي
لقد سررت كل السرور بالنقاش الرائع والإثراء المتميز الذي جادت به قرائح علمائنا الأفاضل في هذا الملتقى المبارك.
حول أسباب انحسار المذهب الشافعي الذي كان سائدا في مجتمعنا منذ قديم الزمان في حياتنا الفقهية، ومعرفة أسباب هذا التراجع الذي أصابه من حيث تدريسه وإجراء بحوث جادة حوله، وطرح التساؤل حول علاقة تيار الصحوة الإسلامية بمختلف مدارسه بإضعافه أو على الأقل عدم إعطائه العناية التي كان يستحقها منهم بصفتهم أصحاب مشروع إسلامي نهضوي يريدون من خلاله إعادة الحياة العامة والخاصة للمجتمع إلى المحجة البيضاء لشريعتنا الغراء، وما هي السبل الناجعة لإعادة دور المذهب المنشود.
وأريد أن أعرض عليكم بعض المرئيات بصورة سريعة علّها تضيء بعض الجوانب المثارة من قبل علمائنا الأجلاء مع طرحي لبعض المقترحات أو التوصيات -في نهاية المطاف- التي قد تساهم في إثراء المخرجات من هذه المناقشات التي هي عبارة عن تسليط للأضواء بعجالة على جوانب من هذه الإشكالية المطروحة من قبل الإدارة، والتي يمكن فيما بعد أن تتطور إلى حلقات نقاش مستديرة على الأقل ما لم يعقد لها ندوات كبرى تقدم فيها أوراق علمية وبحوث محكمة، وذلك بغية تعميق الحوار وتبادل الرؤى حول الموضوع.
وانطلاقا من قاعدة “العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب” ، فإنني أرى أن أغلب الإخوة الذين أدلوا بآراءهم حول الموضوع المثار، كانوا مقتنعين بأهمية الرجوع إلى تعميق الدراسات الفقهية للفقه الشافعي السائد قديما في منطقتنا وتوجيه شباب الصحوة والأجيال المتعلمة إلى تعمق في دراسته وإتقانه.
وسبب هذه الدعوة برأيي ليست الرغبة في الدعوة إلى التمذهب والتعصب وتشجيع الناس على التقليد الأعمى، وهذا ضد المنهج القويم الذي دعت إليه الشريعة، وبذلت الصحوة فيها جهودا مضنية، وبذلت طاقاتها العلمية لمحاربة كل ما يمكن أن يخرجها عن مسارها الصحيح، وإنما المقصود من هذه الدعوة هو رعاية المذهب السائد في المجتمع الصومالي من أجل تحقيق الاستقرار والوئام الاجتماعيين للتدين الاجتماعي في الصومال.
وهذا التوجيه كثيرا ما ورد من علمائنا من السلف والخلف، فعلى سبيل المثال فقد رفض الإمام مالك أن تُفرض آراؤه الفقهية في كتابه الموطأ على الأمصار عندما طلب منه ذلك الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور فقال له: “يا أمير المؤمنين لا تغعل؛ فإن الناس قد سبق لهم أقاويل وسمعوا أحاديث وروايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودالوا له، من اختلاف أصحاب رسول الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوا شديد، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم”.
وعلماؤنا الأجلاء المعاصرون أوصوا كذلك أن يفتى لأهل كل بلد على ضوء المذهب السائد عندهم أو إحالة الفتوى إليهم.
وعندما يعتمد على المذهب السائد في منطقة معينة، فليس معناه أنه لا يمكن الخروج عليه بأية مسألة وإن كانت ضعيفة جدا، والإمام النووي قد خالف على سبيل المثال المذهب في بعض المسائل فيه وهو العمدة في المذهب، فلربما رجح بعض الأقوال فيه على خلاف الظاهر، إذا رأى أن النص يعارض المذهب صراحة حسب رأيه، وفي هذه النقطة نفسها هو ينفذ وصية امامه الشافعي التي أوردها بعض الإخوة خلال المناقشات مفادها، إذا صح الحديث وقولي يخالفه فاضربوا قولي عرض الحائط.
وقد يقول غيره عكس ذلك من أن قول المذهب موافق للشريعة وإنما فهم الشيخ للنص قد يكون فيه نظر ،مثل مسألة الوضوء من أكل لحم الإبل.
وهذا النهج هو ما تدعو إليه جل الحركات المعاصرة، وكذا العلماء الموجهون في معظم الأقطار الإسلامية من أجل تحقيق الوحدة الفقهية لتدين المجتمع في القطر الواحد على الأقل؛ حيث إن جهابدة علمائنا اتفقوا وتواطأوا على هذا الفهم، فمثلا الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني ألف قبل سنتين كتابا بعنوان:
“الاختيارات المغربية في التدين والتمذهب” والكتاب من إصدارات قسم الإنتاج العلمي والفكري لحركة التوحيد والإصلاح المغربية.
وفيما يخص إهمال التيار الصحوي للتراث الفقهي للمذهب الشافعي أو إقصائه، فإنني أوافق على أنها لم تكن مقصودة أو أنها ما جاءت بتوجيه من قيادات التيار الصحوي، وإنما كان الأمر استجابة لما كان يناسب أهدافهم في تلك المرحلة كما أشار إليها بعض الإخوة في مداخلاتهم، وإنما كان جل اهتماماتهم في تصحيح عقائد المجتمع ومحاربة الأفكار الهدامة من الشيوعية والعلمانية، ومحاربة العري والسفور والرذائل الاجتماعية وغرس الهوية الإسلامية والاعتزاز بها من جديد، وخلق رأي عام مقتنع قناعة تامة بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية وتعاليمها في الحياة العامة والخاصة، رغم جهل كثير منهم مضامينها أحيانا، لكن همهم أصبح تبعا لما جاء به المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهذا النجاح الباهر يحسب للصحوة، وذلك إضافة إلى مجهوداتها المختلفة التي بذلتها من: نشر للدعوة العامة في المنابر والحلقات العلمية، وبناء المدارس والمعاهد والجامعات وفي جهود الإغاثة … إلخ، ولكن آن الأوان أن تهتم بتحويل شعارها العام، وهو “الإسلام هو الحل”، و”الإسلام صالح لكل زمان ومكان” إلى سلوك واقعي وعمل ملموس.
إذن كيف يتأتى أن تطلق مشروعها في تطبيق الشريعة الإسلامية وتستفيد من إنجازاتها التي تحققت ولو نظريا حيث سطرت الدساتير الأخيرة التي وضعت للصومال منذ مؤتمر عَرْتَهْ إلى اليوم بأن: الشريعة الإسلامية هي المصدر الأول للتشريع الوطني وأن أي تشريع يخالفه يعتبر لاغيا.
وعليه يرجى من العلماء أن يهتموا بوضع تصور حول تقنين الأحكام الشرعية لتكون مرجعا للقضاة، إذ إن التقنين يحتاج إلى مذهب ينطلق منه ويعتمد عليه دون أن يتجمد في نصوص العلماء القدامى، وهذا ما يستلزم اليوم من العلماء إعداد أجيال من طلبة العلم والباحثين المتسلحين بالفقه السائد .
وفي هذا الإطار نشير إلى أن المذاهب الفقهية تزدهر وتتطور في ظل تطبيق مسائلها في الواقع المعيش؛ وهي فرصة حصل عليها المذهب الحنفي أكثر من غيره.
والمذهب الشافعي بأصوله الذي جمع بين تراث أهل الحديث وتراث أهل الرأي، وعلماؤه هم أول من وضعوا وطوروا علم أصول الفقه، ووضعوا كذلك منطلقات علم مقاصد الشريعة وكلياتها، وقعدوا القواعد الفقهية الجامعة للمسائل الفقية المتناثرة، وهم أهم من وضع علم تخريج الفروع على الأصول وأشباهه.
كل هذه العلوم وهذا التراث تمكّن أربابها إذا تركوا الجمود على الأقوال الموروثة من علمائنا القدامى ولاسميا في باب المعاملات تمكنهم من أن يخرجوا المسائل المستجدة على تلك الأصول الراسية والتراث المتميز مع عدم الإغفال عن الاستفادة من التجارب والآراء النيرة في المذاهب السنية الأخرى.
وأخيرا أقول فلا خوف على قدرة المذهب بأصوله ومراجعه وتراثه ورجالاته المحلية والعالمية من أن يعيدوا إلى المذهب نهضته وعطاءه المتجددين، وقد بدا بعض علمائنا الأفذاذ من الشام ومصر مثل: مصطفى سعيد الخن، ومحمد الأديب وغيرهم من أصحاب الفقه المنهجي وغيرها من الكتب التي عُرضت نًسخًا منها في ملتقانا المبارك، وكان من ضمنهم بعض علماء الصومال.
وعليه نوصي بالآتي:
- خلق رأي عام عريض بين علماء الصحوة يشجع التمسك بالمذهب الشافعي لكونه خيارا فقهيا جامعا في المنطقة على ضوء المقاصد المشار إليها أعلاه.
- عقد حلقات علمية في المساجد لدراسة المذهب بطريقة تربط الفروع بأصول المذهب ومناهجه وتشرح مآخذ أدلته الشرعية.
- توجيه جامعاتنا ومعاهدنا العلمية إلى جعل المقررات الدراسية بكتب المذهب الصالحة للمستوى أو تأليف مقرر جديد يناسبه على ضوء مراجع المذهب، وعلماؤنا في الصومال قادرون على ذلك، وأجدر بهم من علماء.
- تشجيع مؤسساتنا التعليمية العالية والمراكز المهتمة بالدراسات الإسلامية من أن يوجهوا طلابهم المتخرجين من المراحل كلها إلى إجراء بحوثهم وكتابة رسائلهم في مسائل المذهب الشافعي وتخريجها على المسائل المستجدة -دراسة أو مقارنة- بناءا على أصول المذهب ومنهجه في الاستنباط، وأن لا يقتصروا على المنقول فقط.
- اعتناء العلماء المهتمين بدراسة وبحوث مقاصد الشريعة في الصومال وعلى رأسهم مركزنا المتميز ” مركز المقاصد للبحوث والدراسات” الذي يترأسه الأستاذ الدكتور محمد حاج أحمد حفظه الله، وكذلك كليات الشريعة والدراسات الإسلامية المهتمة بتدريس مقاصد الشريعة الإسلامية أن يوجهوا كثيرا من بحوثهم وندواتهم العلمية إلى الانكباب على القضايا الفقهية الراهنة، من منطلق مقاصدي مع ربطه بأصول المذهب ومنهجه العام، وطبعا القضايا العامة والكلية هي التي لها الأولوية دوما.
وكذلك دراسة أعلام المذهب وإبراز جهودهم في رعايتهم للمقاصد من خلال مؤلفاتهم وسِيَرِهم.
- تشجيع الكوادر المؤهلة في الانخراط في المجالس التشريعية والسلك القضائي ووزارة العدل ونظيراتها في الولايات بغية تحريك مشروع “أسلمة القوانين” والمشاركة في سَنِّها على أسس المذهب الشافعي ومبادئه، وربطها دائما بمقاصد الشريعة الإسلامية ورعايتها للواقع المعيش ومآلاته.
وإلا لا نزال نواصل الدندنة والتنظير العام بعيدا عن الواقع الذي سيتشكل ويتغير باستمرار.
وأخيرا نوصي إدارة الملتقى -شاكرين لهم على جهودهم المتميزة- بإقامة ندة علمية حول ترسيخ هذه المفاهيم ومناقشة إشكالياتها للوصول إلى مقاربة مقبولة من قبل غالبية علمائنا المشاركين في هذا الملتقى المبارك، من أهل الفضل والعطاء.
وجزاكم الله خيرا.