مصطلحات مقاصدية (7)

مقصد التزكية

تعتبر التزكية أحد أبرز المقاصد الشرعية، وقد جعلها د.طه جابر العلواني من المقاصد الحاكمة، حيث أصّل لمنظومة مقاصدٍ عليا حاكمة ثلاثية وهي: التوحيد والتزكية والعمران.

التزكية في اللغة:

تدل مادة الكلمة على النماء والزيادة ومنه الزكاة، وقال بعضهم: سميت بذلك لأنها مما يرجى به زكاة المال، وهو زيادته ونماؤه، وقال بعضهم: سميت زكاة لأنها طهارة، قالوا: وحجة ذلك قوله جل ثناؤه: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) التوبة:103

وأصل الزكاة في اللغة الطهارة والنماء والبركة والمدح، والمقصود بالتزكية هو التطهير.

التزكية في القران والسنة.

وردت مشتقات هذه المادة في مواضع متعددة من القران الكريم، قال تعالى: (أيها أزكى طعاما) الكهف:19، وهو “إشارة إلى ما يكون حلالا لا يستوخم عقباه، ومنه الزكاة لما يخرج الإنسان من حق الله تعالى إلى الفقراء، وتسميته بذلك لما يكون فيها من رجاء البركة، أو لتزكية النفس أي تنميتها بالخيرات والبركات، أولهما جميعا، فإن الخيرين موجودان فيها”.

“وبزكاة النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره، وذلك ينسب تارة إلى العبد لكونه مكتسبا لذلك ، نحو: (قد أفلح من زكاها)الشمس:9، وتارة ينسب إلى الله تعالى لكونه فاعلا لذلك في الحقيقة، نحو: (بل الله يزكي من يشاء)النساء:49 وتارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكونه واسطة في وصول ذلك إليهم نحو: (تطهرهم وتزكيهم بها)التوبة:103 وقوله نعالى: (يتلواعليكم آياتنا ويزكيكم)البقرة:151 وتارة إلى العبادة التي هي آلة في ذلك نحو: (وحنانا من لدنا وزكاة)مريم:13 (لأهب لك غلاما زكيا)مريم :19 اأي مزكى بالخلقة وذلك على طريق ما ذكرنا من الاجتباء، وهو أن يجعل بعض عباده عالما وطاهر الخلق لا بالتعلم والممارسة بل بتوفيق إلهي، كما يكون لجل الأنبياء والرسل.

ويجوز أن يكون تسميته بالمزكى لما يكون عليه في الاستقبال لا في الحال، والمعنى: سيتزكى (والذين هم للزكاة فاعلون) المؤمنون:4 أي: يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله، أو ليزكوا أنفسهم، والمعنيان واحد. وليس قوله: (للزكاة) مفعولا لقوله (فاعلون) بل اللام فيه للعلة والقصد.

وتزكية الإنسان نفسه ضربان:

أحدهما: بالفعل، وهو محمود واليه قصد بقوله(قد أفلح من زكاها) الشمس:9 وقوله ( قد أفلح من تزكى) الاعلى:14.

والثاني: بالقول، كتزكية العدل غيره، وذلك مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، وقد نهى الله تعالى عنه فقال ( فلا تزكوا أنفسكم) النجم:32، ونهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلا وشرعا، ولهذا قيل لحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقا؟ فقال: مدح الرجل نفسه.

أما في السنة النبوية، فقد جاء استعمال مشتقات “التزكية” في مواطن كثيرة ، منها ما جاء في صحيح  مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء، قال سميت ابنتي برة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاتزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم، فقالوا بم نسميها؟ فقال: سموها زينب.

وعن خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم ” من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذلك، إن كان يعلم ذلك منه”

التزكية في الاصطلاح المقاصدي:

لم يصرح المتقدمون باعتبار التزكية مقصد من المقاصد الشرعية، لكن يفهم من كلام بعض الأعلام إدراج التزكية ضمن المقاصد العالية، نحو الإمام ابن تيمية الذي قال:” وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان؛ أخروية ودنيوية، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال القلوب وأعمالها: كمحبة الله، وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة، وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود، وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمربه عنه، حفظا للأحوال السنية، وتهذيب الاخلاق، ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح”.

فإدراج العبادات الباطنة وأحوال القلوب وأعمالها هو قول بالتزكية وإن لم يصرح بها اسما، لكنه صرح بضمونها.

اما المعاصرون فأضافوا التزكية إلى المقاصد الحاكمة، وعلى رأسهم د. العلواني الذي ألف كتابا بعنوان ” التوحيد والتزكية والعمران: محاولة في الكشف عن القيم والمقاصد القرآنية الحاكمة” إلا أنه لم يعرف التزكية تعريفا حديا ، لكنه بين المقصود العام منها بأن اعتبرها دعامة التكليف الأولى ” إذ بها يتمكن من الوفاء بالعهد، والقيام بحق الأمانة وأداء مهام الاستخلاف واجتياز اختبار الابتلاء”.

وانطلق في ذلك بما جاء في القران الكريم (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتاك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيزالحكيم) البقرة:129.

واعتبر د. الريسوني أن التزكية مقصد شرعي؛ إذ عدّ “العلم النافع والعمل الصالح، هما الوصف الجامع لرسالة الأنبياء ومقاصد إرسالهم ، وهو المعنى المعبر عنه في آيات أخرى بالتعليم والتزكية، باعتبارهما لبّ الوظائف النبوية وأساس الشرائع الربانية.

قال تعالى:( هو الذي بعث في الأميين رسولا يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) الجمعة:2،  وقد تكررت هذه المعاني-وحتى الألفاط- في مواضع عدة من القران الكريم:

–         (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) البقرة:128

–         (كما ارسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب  والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) البقرة:151.

–         (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) آل عمران:164.

قال العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله :”ذكرالله تعالى مقاصد البعثة المحمدية الرئيسية وفوائدها الأساسية في عدة آيات من القرآن الكريم..”يقصد الآيات الأربع السابقة، ثم قال :” ومهمة تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس تشغل مكانا كبيرا في دائرة الدعوة النبوية ومقاصد البعثة المحمدية”.

ثم قال :” وهذا شأن الرسل جميعا كما هو معلوم، وهو واضح من دعاء إبراهيم (ربنا وابعث فيهم ……) البقرة:129، كما هو واضح في قوله تعالى( قد أفلح من تزكى) إلى قوله ( إن هذا لفي الصحف الاولى صحف إبراهيم وموسى) الأعلى:18-19.، والأمر في غنى عن الإثبات.

هذان المقصدان الأساسيان “التعليم والتزكية” ينصبّان بالدرجة الأولى على العنصر البشري وعلى الكيان البشري في ذاته وحالته الذاتية؛ لأن هذا هو المناط الأول والمنطلق الأول لكل صلاح وإصلاح، أو لكل فساد وإفساد، ولذلك كان أساسيا ومركزيا في الهداية الربانية والدعوات النبوية”.

فانطلاقا مما سبق يمكن تعريف مقصد التزكية بأنه: تهذيب النفس وترقيتها بترسيخ معاني الإظيمان والخير، لتحقيق النماء وإقامة العمران.

Share:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn