مقاصد الزكاة وفوائدها

مقاصد الزكاة وفوائدها

? د.  انجوغو امباكي صمب – عضو مجلس الخبراء بمنظمة الزكاة العالمية.

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد.

فهذه كلمات يسيرة في بيان مقاصد الزكاة العظيمة وفوائدها الجليلة، جمعتها من نصوص القرآن والسنة، وكتب أهل العلم من المفسرين والفقهاء، ولخصتها في هذه المقالة نصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأسأل الله تعالى أن يتقبلها ويضاعف أجرها، ويثقل بها موازين أعمالنا يوم القيام، إنه جواد كريم .

ومن المتقرر شرعا والمعلوم عقلا أن الشارع الحكيم لم يأمر بشيء من الأحكام إلا وله فيه مقاصد وغايات وعلل وأسرار، علمها من علمها وجهلها من جهلها، وعدم العلم بها لا يعنى عدمها، وتتلخص تلك المقاصد والغايات والعلل والأسرار في جلب المصالح ودفع المفاسد، في الدين والدنيا والآخرة، قال تعالى{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97].

وقد اتفقت كلمة العلماء على أن المقصد العام للشريعة الإسلامية هو جلب المصالح ودرء المفاسد، قال ابن تيمية رحمه الله “الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها “[1]، وقال الشاطبي رحمه الله :” أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا “[2] وقال ابن عاشور رحمه الله تعالى: ” فالشرائع كلها وبخاصة شريعة الإسلام جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل والآجل، أي في حاضر الأمور وعواقبها “[3].

هذا، وإن أعظم المقاصد التي ينبغي تعلمها وتعليمها، ونشرها بين الناس وتفعيلها في الحياة، تلك المقاصد المتعلقة بالعبادات، وبالأخص ما تعلقت منها بأركان الإسلام وقواعدها العظام، كمقاصد الصلاة، ومقاصد الزكاة، ومقاصد الصوم، ومقاصد الحج، فكثير من الناس يجهلون مقاصد هذه العبادات، ولا يعرفون من فوائدها وعوائدها الدينية والدنيوية إلا القليل، لانهم لا يرون منها إلا الجانب التعبدي فقط، وهم من منافعها وأسرارها الأخرى غافلون.

وفيما يلي بعض مقاصد فريضة الزكاة وفوائدها، مع أدلتها من الكتاب والسنة وأقوال العلماء، وشواهدها من التاريخ والواقع، وآثارها في الحياة وبين الأحياء.

المقصد الأول : طاعة الله ورسوله.

مقصد الزكاة الأعلى وفائدتها العظمى هو طاعة الله ورسوله، والمسلم يؤتي زكاة ماله طيبة بها نفسه طاعة لله ولرسوله، وهي سبب كل سعادة في الدنيا وفلاح في الآخرة، قال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[آل عمران:132] قال السعدي رحمه الله:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}:” بفعل الأوامر امتثالا واجتناب النواهي{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}:فطاعة الله وطاعة رسوله، من أسباب حصول الرحمة”[4] والزكاة من آكد فرائض الإسلام، ومنعها من أعظم الكبائر.

وقال تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[النور:64] قال الخازن رحمه الله:” أي افعلوا هذه الأشياء على رجاء الرحمة”[5]، و هذه الأعمال الثلاثة من أعظم موجبات الفلاح؛ لأن الصلاة أول الواجبات بعد التوحيد، وهي صلة بين العبد وربه، والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي شعيرة ربانية من جهة القصد والتشريع، وإنسانية من جهة المحل والتطبيق، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي سبب الهداية والرشاد، وشرط صحة الأعمال وقبولها.

والله تعالى أمر بالزكاة وجعل إيتائها من صفات المؤمنين الصادقين، فقال تعالى {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3] قال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قال: “زكاة أموالهم”[6].

وقرن الله تعالى الزكاة بالصلاة في (28) آية في القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] قال مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تعالى {وَآتُوا الزَّكَاةَ}: “قال: فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة”[7]، ولعل من المناسبة في ذلك كون الصلاة حق الله، وكون الزكاة حق الإنسان، فقرن الله بينهما ليقوم المسلم بأداء الحقين.

وذكر الله تعالى الزكاة من أعمال البر، قال تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}[البقرة:177] قال أبو حيان رحمه الله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}:” على صلة من وصلة من آمن وآتى، وتقدمت صلة من التي هي: آمن، لأن الإيمان أفضل الأشياء المتعبد بها، وهو رأس الأعمال الدينية، وهو المطلوب الأول، وثنى بإيتاء المال من ذكر فيه، لأن ذلك من آثر الأشياء عند العرب، ومن مناقبها الجلية”[8]، وفي الآية الكريمة سعة مفهوم البر وشموله لكل عمل صالح يحبه الله، وكل عمل نافع ينفع خلق الله.

وعن ابن عمر، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان”[9]، وفي الحديث أن الزكاة بالنسبة إلى الإسلام بمنزلة الركن الذي يقوم عليه البناء، وبغير يتهدم أو يضعف، قال الطيبي ر حمه الله: ” حالة الإسلام مع أركانه الخمسة بحالة خباء أقيمت على خمسة أعمدة، وقطبها الذي تدور عليها الأركان هي: شهادة أن لا إله إلا الله، وبقية شعب الإيمان كالأوتاد للخباء “[10].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن، فقال: “ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم “[11]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “فترد على فقرائهم” خصهم بالذكر وإن كان مستحق الزكاة أصنافًا أخر لمقابلة الأغنياء ولأن الفقراء هم الأغلب”[12] وفي الحديث أن فرض الزكاة وإيجابها على المسلمين من الله تعالى، وأن مصرفها إلى فقراء المسلمين، ولفظ ” فترد ” مشعر بكون هذا المال حقا خالصا لهم، فيجب تأديته إليهم.

المقصد الثاني: تطهير نفس المزكي وتزكيتها.

لفريضة الزكاة أثر كبير في تزكية نفس المزكي وتطهيرها من الرذائل الروحية والنفسية والسلوكية، قال تعالى{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[التوبة:103] واختلف المفسرون في معنى { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} إلى أربعة أقوال وهي ” الأول: تطهرهم بأخذها من دنس الآثام، الثاني: تطهرهم تلك الصدقة من أوساخ الناس، الثالث: تزكيهم أنت بواسطة تلك الصدقة، الرابع: تطهرهم من ذنوبهم”[13].

 ولا تعارض بين هذه التفاسير المختلفة، لأن معنى التطهير شامل لجميع ما ذكر، فالزكاة حسنة والحسنة تمحو السيئة، وتنظف قلوب الناس من أوساخ الحقد وأدران الحسد، والمزكي يدفع زكاته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو إلى رسله وعماله، وإلى خلفائه ورسلهم وعمالهم من بعده طاعة لله.

والتزكية والتطهير بمعنى واحد إذا افترقا، وأما إذا اجتمعا فيكون معنى التزكية التنمية والزيادة، سواء في حق المزكي أو في المال المزكى، أو فيهما معا، فالزكاة تجمع بين التخلية من الرذائل والتحلية بالفضائل، قال ابن عاشور رحمه الله: ” والتزكية: جعل الشيء زكيا، أي كثير الخيرات، فقوله:{تُطَهِّرُهُمْ}: إشارة إلى مقام التخلية عن السيئات، وقوله: {َتُزَكِّيهِمْ}: إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات، ولا جرم أن التخلية مقدمة على التحلية، فالمعنى أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم ومجلبة للثواب العظيم “[14].

والزكاة تقي بإذن الله من شح النفس وحرصها الشديد على المال، قال تعالى{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، قال البيضاوي رحمه الله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}:”حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإِنفاق فَأُولئِكَ {هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: الفائزون بالثناء العاجل والثواب الآجل”[15].

وفي إيتاء الزكاة عصيان لأمر الشيطان بالبخل وإرغام له، قال تعالى{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[ البقرة:268]قال البغوي رحمه الله{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}:” أي يخوفكم بالفقر {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}: أي بالبخل ومنع الزكاة { وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ} أي لذنوبكم { وَفَضْلًا} أي رزقا خلفا”[16].

و للزكاة أثر ملموس في تطييب القلب وترقيق الشعور بالرحمة والشفقة على بالفقراء والمساكين، والإنفاق في التعليم والتربية والدعوة والجهاد، وفي كل ما يحب الله أن ينفق فيه الأموال، قال تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}[ الإنسان: من 8 إلى 11] و قال تعالى:{ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 11,18].

قال الرازي رحمه الله موضحا الأثر النفسي والسلوكي للزكاة ” والخلق إذا علموا في الإنسان كونه ساعيا في إيصال الخيرات إليهم، وفي دفع الآفات عنهم أحبوه بالطبع ومالت نفوسهم إليه لا محالة…، فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله، وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرفه إليهم من ذلك المال أكثر، أمدوه بالدعاء والهمة، وللقلوب آثار وللأرواح حرارة، فصارت تلك الدعوات سببا لبقاء ذلك الإنسان في الخير والخصب”[17].

كما أن الزكاة إذا أديت بإخلاص وعلى وفق شرع الله كانت من أسباب الفلاح ونيل رضوان الله تعالى قال تعالى:{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }[البقرة:110] وقال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }[البقرة:277]، وقال تعالى {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:88،89].

المقصد الثالث: إغناء الفقراء والمساكين.

من شأن شعيرة الزكاة العظيمة أنها تساهم في محاربة الفقر والبطالة في المجتمع، ويوفر للناس الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، فعن ابن عمر رضي الله عنه، قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر, وقال: “أغنوهم في هذا اليوم”[18]، وفي رواية للبيهقي ” أغنوهم عن طواف هذا اليوم”[19]، قال الصنعاني رحمه الله: ” “أغنوهم” : أي الفقراء “عن الطواف”: في الأزقة والأسواق لطلب المعاش” في هذا اليوم” : أي يوم العيد وإغناؤهم يكون بإعطائهم صدقته أول اليوم”[20].

فالتمتع والفرح بالعيد حق لجميع أفراد المجتمع المسلم، ويجب على الأغنياء أو يغنوا الفقراء يوم العيد ويسدوا خلتهم فيه، ليأكلوا فيه ويشربوا كما يأكل ويشرب الجميع، ويلبسوا ويتمتعوا كما يلبس ويتمتع الجميع، قال برهان الدين الحنفي رحمه الله: “وإنما استحب هذا الإغناء؛ لأنه يوافق أمر الشرع، ويحقق ما هو المقصود من شرع الصدقة”[21].

ومقصد “إغناء الفقراء” ليس خاصا بيوم الفطر فقط، فالزكاة كما تغني الفقراء في يوم عيد الفطر، فإنها تغنيهم أيضا في السنة بما يعطون من الأموال التي يقضون بها حوائجهم المختلفة أياما وليالي وأشهرا، بل قد تكون الزكاة سببا للغنى الدائم إذا استثمر الفقراء أموال الزكاة في تجارة أو زراعة ونحوها.

ولقد أتى على الناس حين من الدهر تحقق فيه مقصد إغناء الفقراء بشعيرة الزكاة، وذلك في زمن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فعن عمر بن أسيد بن عبد الرّحمن بن زيد بن الخطّاب، قال: “إنّما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً، ثلاثين شهراً، لا والله ما مات عمر حتى جعل الرّجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون للفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيهم فلا يجده، فيرجع بماله؛ قد أغنى عمر بن عبد العزيز النّاس”[22]

والزكاة كما يقول الشيخ القرضاوي رحمه الله: ” ليس موردا هينا أو ضئيلا، إنها العشر أو نصف العشر من الحاصلات الزراعية…، ويقاس على الأرض الزراعية في عصرنا العمارات والمصانع ونحوها من المستغلات…، والزكاة عشر الناتج من عسل النحل كما جاءت بذلك الآثار…، ويمكن أن يقاس عليها المنتجات الحيوانية كمنتجات دودة القز ومزارع الدواجن وأبقار الألبان…، والزكاة أيضا ربع عشر النقود والثروة التجارية للأمة من نقود أو تجارة كل مسلم مالك للنصاب”[23]

ولا يوجد في أي دين أو نظام اقتصادي غير الإسلام موردا يشبه الزكاة في هذه الضخامة والتنوع والثراء، وهذه الدقة في الجباية والتوزيع، وهذه الآثار الدينية والاقتصادية والاجتماعية.

المقصد الرابع: توفير فرص العمل.

لا بد في جباية الزكاة وتوزيعها من موظفين معينين من قبل الدولة، وهم “العاملون عليها” وهم في الأصل ليسوا بفقراء محتاجين، وإنما هو عاملون متخصصون في جمع المال وحسابه وادخاره، وموظفون لهم رواتب محددة كسائر موظفي الدولة، قال تعالى{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا …}[ التوبة : 60] قال القرطبي رحمه الله: ” يعني السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة بالتوكيل على ذلك…، واختلف العلماء في المقدار الذي يأخذونه على ثلاثة أقوال: قال مجاهد والشافعي: هو الثمن، وقال ابن عمر ومالك: يعطون قدر عملهم من الأجرة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، القول الثالث: يعطون من بيت المال، قال ابن العربي: وهذا قول صحيح عن مالك بن أنس من رواية ابن أبي أويس وداود بن سعيد بن زنبوعة، وهو ضعيف دليلا “[24]

وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وتراتيبه الإدارية تولية أهل العلم والأمانة على الصدقات، فقد بعث المهاجر بن أبي أمية ابن المغيرة إلى صنعاء…، وبعث زياد بن لبيد إلى حضرموت وعلى صدقاتها، وبعث عدي بن حاتم على طيء وصدقاتها، وعلى بني أسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وفرق صدقة بني سعد على رجلين منهم، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية منها، وقيس بن عاصم على ناحية، وكان قد بعث العلاء ابن الحضرمي على البحرين، وبعث علي بن أبي طالب إلى أهل نجران[25] .

وقد تطورت إدارة “العاملين عليها” عبر التاريخ لتشمل أصحاب مهن ووظائف مختلفة، مثل “الحاشر” الذي يحصى أرباب الأموال الذين تجب عليهم الزكاة، و”الحاسب” الذي يحسب الأموال الزكوية ويقدر الواجب فيها، و”الكاتب” الذي يكتب مقادير ما أخرجت من الزكاة وجهاتها و”الجابي” الذي يتسلم الزكاة من أصحابها و”القسام” الذي يوزع الزكاة على المصارف الثمانية و”حافظ المال” وهو صاحب الخزينة التي تحفظ الزكاة، وغيرهم ممن ينتسبون إلى هذه الإدارة ويعطون رواتبهم من سهم “العاملين عليها”[26]

وأصبح “العاملون عليها” اليوم مؤسسة أو مؤسسات تابعة للدولة يعمل فيها موظفون مختلفون في التخصصات والدرجات، فمنهم الاستشاريون الشرعيون، والمحاسبون، والكتاب …، ويدخل في حكمهم السائقون والحراس والحمالون ونحوهم، وكلما توسع وتطور العمل في جباية الزكاة وصرفها، ازدادت أعداد “العاملين عليها”، وتنوعت التخصصات العاملة فيها، وتفاوتت رواتبهم وعلاواتهم.

المقصد الخامس: تأليف القلوب وكسب الأنصار.

من أساليب التمكين لدين الإسلام تأليف قلوب الناس من أجل كسب الأنصار أو تكثيرهم، ودفع الأعداء أو تقليلهم، ومن التشريعات المحققة لهذا المقصد العظيم إعطاء “المؤلفة قلوبهم” من الزكاة ولو كانوا من الأغنياء الموسرين، قال تعالى {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ…} [التوبة:60] “عن مجاهد رحمه الله، قال: ناس كان يتألفهم بالعطية…، وعن الحسن: الذين يؤلفون على الإسلام…، وعن قتادة: أناس من الأعراب ومن غيرهم، كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا”[27].

وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: فيمن أعطى من المؤلفة قلوبهم يوم حنين ” فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم”[28] قال ابن الأثير رحمه الله: ” التأليف المداراة والإيناس ليثبتوا على الإسلام، رغبة فيما يصل إليهم من المال”[29]، وقد اعترف صفوان بن أمية رضي الله عنه أحد كبراء قريش جاها ومالا بأثر عطية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، قال رضي الله عنه: ” أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وإنه لأبغض الخلق إلي، فما زال يعطيني، حتى إنه لأحب الخلق إلي”[30].

ولإعطاء “المؤلفة قلوبهم” من الزكاة فوائد كثيرة، منها: ترغيب الكفار منهم في الدخول في الإسلام، و تثبيت حديثي العهد منهم بعد الدخول فيه، قال الطبري رحمه الله: وأما “المؤلفة قلوبهم” : فإنهم قوم كانوا يُتَألَّفون على الإسلام، ممن لم تصحّ نصرته، استصلاحًا به نفسَه وعشيرتَه, كأبي سفيان بن حرب، وعيينة بن بدر، والأقرع بن حابس, ونظرائهم من رؤساء القبائل”[31].

ومنها: دفع الشرور المتوقعة من الأعداء الذين يسعون لتشويه صورة الإسلام وصد الناس عن سبيل الله، فعن ابن عباس رضي الله عنه: ” هم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا، وكان رسول صلى الله عليه وسلم يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرا قالوا: هذا دين صالح! وإن كان غير ذلك، عابوه وتركوه “[32]، ويقاس على هؤلاء في زماننا المرتزقة من القنوات الفضائية والإعلاميين، وبعض الكتاب والباحثين من ضعاف النفوس.

ولإمام المسلمين في كل زمان ومكان أن يجتهد في تأليف قلوب أعداء المسلمين بما يراه مناسبا من قول أو فعل أو إعطاء مال ونحوه، إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين، لأن هذا الحكم ليس خاصا بمن كانوا من أعداء السلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو حكم دائر مع علته وجودا وعدما، ويرجع إلى تقدير إمام المسلمين ونظره، خلافا لما ذهب إليه بعض أهل العلم من انقطاع هذا السهم لغياب محله”.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم شرعا معلقا بسبب إنما يكون مشروعا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم؛ فإنه ثابت بالكتاب والسنة، وبعض الناس ظن أن هذا نسخ لما روي عن عمر: أنه ذكر أن الله أغنى عن التألف…، وهذا الظن غلط؛ ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه؛ لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل، والغارم ونحو ذلك “[33].

المقصد السادس: حفظ الكرامة الإنسانية.

من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ الكرامة الإنسانية، وتحرير البشر من الاستعباد والاسترقاق، والسجن بغير الحق، وكل ما يقيد تقييد الحريات بغير حق، أو يسبب الذلة والمهانة لأهل السيادة والشرف، فالله تعالى خلق الإنسان وخصه بكرامته وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70].

ومن التشريعات الخاصة بهذا المقصد الجليل عتق الرقاب وقضاء ديون الغارمين وإعطاء أبناء السبيل، وفكاك الأسرى، قال تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ…} [البقرة:60] وقال تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}[ البقرة:177].

وقوله تعالى: { وَفِي الرِّقَابِ}:”يعني المكاتبين يعانون على بدل الكتابة، وقيل: هم عبيد يشترون بهذا السهم فيعتقون “[34]، وكانت ظاهرة الرق قبل الإسلام وبعده من أكبر مشكلات البشرية التي تطلبت حلولا جذرية من أجل القضاء عليها، فناسب ذلك أن تكون من مقاصد الشريعة الإسلامية الخاتمة ما تدعو إلى تحرير الناس من العبودية، قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله ” فلما ظهر الإسلام، وأشرق نوره الماحي لكل ظلام، كان مما أصلحه من فساد الأمم إبطال ظلم الرقيق وإرهاقه، ووضع الأحكام الممهدة لزوال الرق بالتدريج الممكن “[35]، ومن تلك الأحكام إعطاء المكاتب من الزكاة ، وشراء الأرقاء الذين لا مال له أصلا من أجل تحرير من الزكاة، والكفارات والتطوعات في عنق الرقاب وتحرير العبيد.

وقوله تعالى: {وَالْغارِمِينَ}:هم : المديونون لأنفسهم في غير معصية ومن غير إسراف، إذا لم يكن لهم وفاء، أو لإِصلاح ذات البين وإن كانوا أغنياء”[36]، ويدخل في الغارمين كل معسر بسبب المصلحة العامة للمجتمع أو للدولة أو للأمة، فمن تحمل مالا لمصلحة المسلمين، ثم أعسر وأصبح مديونا أعطي من مال الزكاة ما يقضي به دينه، قال أبو زهرة رحمه الله ” والتجار الذين يستدينون لجلب البضائع من الأقطار في حكمة وعناية بمتجرهم، ولكن تجارتهم تبور أو تغرق مركبها، أو تذهب أموالهم بأي سبب من أسباب الضياع، وكذلك الذين تحملوا ديات للصلح بين الناس، فإنه يؤدي ما تحمَّلوه من مال الصدقات، وإنما أديت ديون الغارمين من الصدقات للتعاون، ولإقالة العثرة “[37].

وقوله تعالى: {وَابْنَ السَّبِيلِ} ” قال ابن عباس: هو عابر السبيل، وقال قتادة في آخرين: هو الضيف، وقال جماعة: هو المسافر المنقطع به وإن كان له مال في بلده”[38]  والحكمة في إعطاء ابن السبيل من الزكاة هي:” كونهم في مظنة الوحشة والحاجة، وتعذر ما يتمكنون عليه في أوطانهم، فيتصدق على محتاجهم، ويجبر خاطر غير المحتاج بالإكرام والهدية والدعوة والمعاونة على سفره “[39].

المقصد السابع: إقامة الدين وتمكين أهله.

تعتبر الزكاة رافدا مهم للإنفاق على المشاريع الإسلامية الكبرى كالجهاد والدعوة والتربية والتعليم ونحوها من وسائل إقامة الدين وتمكين أهله، قال تعالى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:60] قال الطبري رحمه الله وأما قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}” فإنه يعني: وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده بقتال أعدائه، وذلك هو غزو الكفار”[40] وفي رواية لأحمد أن الحج من سبيل الله، فيعطى الفقير من الصدقة ما يحج به حجة الإسلام، أو يعينه فيها مع الفقر.[41]

وذهب بعض العلماء إلى أن سهم {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} عام يدخل فيه كل ما يعين على إقامة الدين وتمكين أهله، قال محمد صديق خان رحمه الله:” أما سبيل الله، فالمراد هنا: الطريق إليه عز وجل، والجهاد – وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل – لكن لا دليل على اختصاص هذا السهم به. بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقًا إلى الله عز وجل…، ومن جملة سبيل الله الصرف في العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية، فإن لهم في مال الله نصيبا سواء كانوا أغنياء أو فقراء. بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين وبهم تحفظ بيضة الإسلام، وشريعة سيد الأنام “[42].

المقصد الثامن: حفظ الأموال وترويجها.

من حكم الله البالغة في تشريع الزكاة حفظ المال، وهو أحد الضروريات الخمسة، فالزكاة تحفظ الأموال، وتروجها بين الناس، وتوصلا إلى جميع الأيدي المستحقة، سواء في ذلك الفقراء والأغنياء، والقادرين على الكسب وغير القادرين، قال الرازي رحمه الله “المال الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان في بيته بقي معطلا عن المقصود الذي لأجله خلق المال، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى، وهو غير جائز، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتى لا تصير تلك الحكمة معطلة بالكلية “[43].

ولا ينبغي أن تبقى الأموال دولة بين الأغنياء، مضنونا بها على غيرهم من الفقراء والمساكين، قال تعالى:{ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ…}[الحشر:7] وهذه الآية الكريمة وإن وردت في الفيء، فإن العلة المذكورة فيها شاملة لكل أنواع النفقات في الشريعة الإسلامية، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال ابن عاشور رحمه الله: ” نأخذ من قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} تفاصيل من علم الاقتصاد السياسي وتوزيع الثروة العامة، ونعلل بذلك مشروعية الزكاة والمواريث والمعاملات المركبة من رأس مال وعمل، على أن ذلك تومئ إليه الآية إيماء “[44].

وفي منع الزكاة وعدم إعطائها للفقراء تعطيل لها عن مقصود الواهب للمال والمستخلف الأغنياء فيه، وهو زيادته ونماؤه ورواجه، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: “ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة[45]، وعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: “ابتغوا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة”[46].

 وعن أبي محجن أن عمر قال لعثمان بن أبي العاص: كيف متجر أرضك؟ فإن عندنا مال يتيم قد كادت الزكاة تفنيه؟ قال: فدفعه إليه، فجاءه بربح ، فقال له عمر: اتجرت في عملنا ؟ اردد علينا رأس مالنا قال: فأخذ رأس ماله ، ورد عليه الربح.[47]

وعن القاسم بن محمد، قال: كانت عائشة تبضع أموالنا، ونحن يتامى، وتزكيها.[48] أي تجعل بضاعة وتتاجر بها.

وفي هذه الآثار فقه السلف الصالح رضي الله عنهم ومعرفتهم بمقاصد الزكاة، وأن منها تنمية الأموال وترويجها وتنميتها، وحفظها من النقصان أو الضياع بسبب الزكاة التي هي آكد الحقوق الواجبة فيها.

وفيها أن الزيادة والنمو في المال ليس فقط في الذهب والفضة، بل إنها حاصلة في جميع الأموال الزكوية من الذهب والفضة والأنعام والحرث، فإن الزكاة عامل ازدهار كبير في مجال التجارة والزراعة والرعي، فكما تدفع الزكاة أصحاب الذهب والفضة إلى التبضع فيها، فكذلك تدفع المزارعين إلى العمل على زيادة محاصيلهم في كل موسم زراعي، وتدفع الرعاة إلى تكثير أعداد رؤوس الأنعام وتوفير منتجاتها المتنوعة، وتدفع الشركات والمصانع إلى مزيد من الإنتاج.

المقصد التاسع: البركة في الأموال.

إن الله تعالى يبارك في الأموال المزكاة ويقدر لها النمو والزيادة والربح، حتى يرى أثر تلك البركة في تلك الأموال، فيكثر القليل، وينمو الضئيل، ويحصل بالانتفاع بالمال في الخير، ويحفظ من الآفات بإذن الله تعالى، ويضاعف أجر التصدق بها في الآخرة، قال تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}[البقرة: 276], قال أبو حيان رحمه الله: “ويربي الصدقات قيل: الإرباء حقيقة، وهو أنه يزيدها وينميها في الدنيا بالبركة، وكثرة الأرباح في المال الذي خرجت منه الصدقة، وقيل: الزيادة معنوية، وهي تضاعف الحسنات والأجور الحاصلة بالصدقة”[49].

وقال تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} [الروم:39]، قال ابن جزي رحمه الله: ” فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ المضعف ذو الإضعاف من الحسنات، وفي هذه الجملة التفات لخروجه من الغيبة إلى الخطاب، وكان الأصل أن يقال: وما آتيتم من زكاة فأنتم المضعفون، وفيه أيضا حذف، لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى ما، وتقديره المضعفون به أو فمؤتوه هم المضعفون “[50].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله الطيب إلّا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله”[51] قال النووي رحمه الله: ” المراد بذلك تعظيم أجرها وتضعيف ثوابها قال ويصح أن يكون على ظاهره وأن تعظم ذاتها ويبارك الله تعالى فيها ويزيدها من فضله حتى تثقل في الميزان”[52].

والمجتمع الذي تنظم فيه الدولة الزكاة في تشريعاتها وتسخر لها الإدارات المختصة لتفعيلها، ويجتهد فيه العلماء في بيان أحكام الزكاة وشرح مقاصدها وغاياتها وفضائلها، ويخرج فيه الأغنياء زكاة أموالهم ويعطونها للفقراء والمساكين وغيرهم من المستحقين، ويتعاون سائر أفراده من الرجال والنساء والصغار والكبار على تطبيق فريضة الزكاة، فإن هذا المجتمع سوف يتمتع بالوحدة والانسجام وتشيع فيه المحبة والوئام، قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله: “وما من مجتمع قام على التكافل والتعاون…، وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة، والتطلع دائما إلى فضل اللّه وثوابه، والاطمئنان دائما إلى عونه وإخلافه للصدقة بأضعافها، ما من مجتمع قام على هذا الأساس إلا بارك اللّه لأهله – أفرادا وجماعات – في ما لهم ورزقهم ، وفي صحتهم وقوتهم وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم “[53].

خاتمة

إلى هنا انتهيت من تقييد بعض مقاصد الزكاة، مع شيء من الاختصار غير المخل إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله.

بقلم الدكتور انجوغو امباكي صمب – عضو مجلس الخبراء بمنظمة الزكاة العالمية.

21 من شهر رمضان 1444 ه الموافق 12 / 4 / 2023م.

 

 

[1] مجموع الفتاوى، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، 1/138الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ.

[2] الموافقات، تأليف إبراهيم بن موسى بن محمد  الشهير بالشاطبي، 2/9 ، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الناشر: دار ابن عفان، ط 1 ، 1417هـ.

[3] التحرير والتنوير، تأليف محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، 3/36، الناشر الدار التونسية للنشر – تونس 1984 هـ.

[4] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، تأليف عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي، ص 147، الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى 1420هـ.

[5] لباب التأويل في معاني التنزيل، تأليف علاء الدين علي بن محمد، 3/304 الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى – 1415 هـ.

[6] تفسير القرآن العظيم، تأليف إسماعيل بن عمر بن كثير، 1/78، محمد حسين شمس الدين، الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون – بيروت، الطبعة: الأولى – 1419 هـ.

[7] المصدر نفسه، 1/150 .

[8] البحر المحيط في التفسير، تأليف أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي، 2/138 تحقيق صدقي محمد جميل، الناشر: دار الفكر – بيروت الطبعة: 1420 هـ .

[9] متفق عليه: صحيح البخاري، 1/11برقم (7) وصحيح مسلم 1/45 برقم (16).

[10] الكاشف عن حقائق السنن، تأليف رف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي، 2/437 ،تحقيق عبد الحميد هنداوي، الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة 1417هـ .

[11] متفق عليه: صحيح البخاري، 2/104، برقم (1395) ، صحيح مسلم 1/51، برقم (19).

[12] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، تأليف أحمد بن محمد بن أبى بكر القسطلاني، 3/79، الناشر: المطبعة الكبرى الأميرية، مصر الطبعة: السابعة، 1323 هـ.

[13] لباب التأويل في معاني التنزيل، 2/403.

[14] التحرير والتنوير، تأليف محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، 11/23 الناشر الدار التونسية للنشر – تونس سنة النشر: 1984 هـ.

[15] أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد البيضاوي، 5/200، محمد عبد الرحمن المرعشلي الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الأولى – 1418 هـ.

[16] معالم التنزيل في تفسير القرآن، تأليف محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، 1/333، محمد عبد الله النمر – عثمان جمعة ضميرية – سليمان مسلم الحرش، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة: الرابعة، 1417 هـ.

[17] مفاتيح الغيب، تأليف أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي خطيب الري، 16/77الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط3 – 1420 هـ.

[18] سنن الدارقطني، 3/89، برقم (2133).

[19] السنن الكبرى، للبيهقي، 4/292، برقم (7739)، وقال البيهقي ” أبو معشر هذا – يعني أحد رواته – نجيح السندي المديني غيره أوثق منه”.

[20] سبل السلام شرح بلوغ المرام، تأليف  محمد بن إسماعيل الصنعاني، 2/138، الناشر : مكتبة مصطفى البابي الحلبي

الطبعة الرابعة 1379هـ.

[21] المحيط البرهاني في الفقه النعماني ، تأليف أبو المعالي برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز الحنفي، 2/289، تحقيق عبد الكريم سامي الجندي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1424 هـ.

[22] سيرة عمر بن عبد العزيز ، تأليف عبد الله بن عبد الحكم المصري ، ص115، الناشر عالم الكتب –بيروت 1414 هـ.

[23] مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، تأليف يوسف القرضاوي ص 65، الناشر مؤسسة الرسالة-بيروت 1406ه.ـ

[24] الجامع لأحكام القرآن، تأليف أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري القرطبي، 8/177 تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة الثانية، 1384هـ.

[25] السيرة النبوية، تأليف عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، 2/600، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري. وعبد الحفيظ الشلبي، الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية، 1375هـ.

[26] انظر: المجموع شرح المهذب، تأليف أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، 6/188الناشر: دار الفكر-بيروت.

[27] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تأليف محمد بن جرير الطبري، 11/519 تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، 1422 هـ .

[28] متفق عليه: صحيح البخاري، 5/158، برقم (4331) صحيح مسلم، 2/733، برقم (1059).

[29] النهاية في غريب الحديث والأثر، تأليف أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري، 1/152، الناشر : المكتبة العلمية – بيروت ، 1399هـ – 1979م.

[30] سنن الترمذي، 2/46، برقم (666).

[31] جامع البيان، 11 /519 .

[32] جامع البيان، 14/313 .

[33] مجموع فتاوى ابن تيمية، 33/94 .

[34] باهر البرهان في معانى مشكلات القرآن، تأليف محمود بن أبي الحسن الغزنوي، ص600، تحقيق سعاد بنت صالح بن سعيد بابقي الناشر: جامعة أم القرى – مكة المكرمة 1419 هـ.

[35] الوحي المحمدي، تأليف  محمد رشيد بن علي رضا، ص240، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، ط 1، 1426 هـ.

[36] أنوار التنزيل وأسرار التأويل، تأليف ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد البيضاوي، 3/86، تحقيق  محمد عبد الرحمن المرعشلي، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط1 – 1418 هـ.

[37] زهرة التفاسير، تأليف  محمد بن أحمد بن مصطفى المعروف بأبي زهرة، 6/3347، الناشر دار الفكر العربي. د . ط .

[38] البحر المحيط في التفسير، تأليف أبو حيان محمد بن يوسف بن علي الأندلسي4/445، تحقيق صدقي محمد جميل، الناشر: دار الفكر – بيروت، 1420 هـ.

[39] تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، تأليف  عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص 58، الناشر: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد – المملكة العربية السعودية، ط1 ، 1422هـ.

[40] جامع البيان، 11/527.

[41] الكافي في فقه الإمام أحمد، تأليف أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، 1/423، الناشر: دار الكتب العلمية، ط1، 1414 هـ.

[42] الروضة الندية شرح الدرر البهية، تأليف  أبو الطيب محمد صديق خان، 1/208 ن الناشر: دار المعرفة، د. ن.

[43] مفاتيح الغيب 16/79.

[44] التحرير والتنوير، 1/43.

[45] سنن الترمذي، 3/23، برقم (641)، قال أبو عيسى وإنما روى هذا الحديث من هذا الوجه وفى إسناده مقال لأن المثنى بن الصباح يضعف في الحديث.

[46] السنن الكبرى للبيهقي، 8/88 ، برقم (7415).

[47] كتاب الأموال، تأليف أبو عبيد القاسم بن سلام، 548، برقم (1303) تحقيق خليل محمد هراس، الناشر دار الفكر. – بيروت. د. ط .

[48] كتاب الأموال لأبي عبيدة، ص 549، برقم (1307).

[49] البحر المحيط، 2/710.

[50] التسهيل لعلوم القرآن، تأليف أبو القاسم، محمد بن أحمد( ابن جزي) 2/134 الكلبي، تحقيق الدكتور عبد الله الخالدي، الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم – بيروت، ط 1 – 1416 هـ.

[51] صحيح مسلم، 2/702، برقم (1014).

[52] شرح صحيح مسلم، تأليف أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، 7/99، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط 2، 1392هـ .

[53] في ظلال القرآن، تأليف سيد قطب، 1/328 ، دار الشروق ـ القاهرة. د. ط .

Share:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn