مقاصد الشريعة في تعدد القراءات (الحلقة الثانية)

 

إن لتعدد القراءات القرآنية أصلا يرجع إليه، وأساسا يقوم عليه، وهو أن العرب الذين نزل عليهم القرآن الكريم كانوا على لغات مختلفة في تخاطبهم وتواصلهم، وكان بين تلك اللغات اختلافات صوتية وأدائية، وأسلوبية وتركيبية، وكانت كل لهجة تتميز عن الأخريات بمزايا، وكل قبيلة تحتفظ بخصائصها الصوتية والتركيبية لدرجة أن بعضهم كان يفاخر بها ويتعصب لها، فجاء القرآن الكريم مستوعبا لكثير من تلك اللغات واللهجات بالأحرف السبعة التي انبثقت منها القراءات القرآنية متواترة وشاذة.

وهذا مبسوط في كتب السنة المطهرة ومؤلفات القراءات، وشروحهما والكتب المفردة في هذا الباب، ولسنا بصدد إيراد كل تفاصيل الموضوع، وإنما القصد عرض مقدمة فيها نكات علمية وطرائف معرفية من النصوص الواردة في الموضوع، وما يستفاد منها، وشرح المقصود بالأخرف السبعة وسرد الحكمة من إنزال القرآن الكريم بها، ثم نختم بخلاصة في علاقة القراءات بالأحرف السبعة.

وهذا كله دون الخوض في التفاصيل المنثورة في مظانها من المطولات والمصادر، بغية تكوين خلفية معرفية للقارئ تمكنه من استيعاب فحوى المقال ومغزاه:

وفيما يلي نعرض ثلاثة جوانب من هذا الموضوع لتتضح الصورة وليتبين المقصود:

أولا: نزول القرآن على سبعة أحرف:

روى بالطرق الصحيحة عن جمع من الصحابة، وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه” (خرجه البخاري (4992)، ومسلم (818).

وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده الكبير: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال يوماً وهو على المنبر: أذكر الله رجلا سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها شاف كاف، لما قام. فقاموا حتى لم يحصوا، فشهدوا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “أنزل القرآن على سبعة أحرف، كلها شاف كاف”. فقال عثمان رضي الله عنه: وأنا أشهد معهم. (الهيثمي، مجمع الزوائد ٧/١٥٥).

وقال الإمام ابن الجزري في نشره: وقد نص الإمام الكبير أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله على أن هذا الحديث تواتر عن النبي – صلى الله عليه وسلم: قلت: وقد تتبعت طرق هذا الحديث في جزء مفرد جمعته في ذلك فرويناه من حديث عمر بن الخطاب، وهشام بن حكيم بن حزام، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة، وعبد الله بن عباس، وأبي سعيد الخدري، وحذيفة بن اليمان، وأبي بكرة، وعمرو بن العاص، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، وسمرة بن جندب، وعمر بن أبي سلمة، وأبي جهم، وأبي طلحة الأنصاري، وأم أيوب الأنصارية، رضي الله عنهم (ابن الجزري نشر القراءات العشر 1/. 146، 147).

عن أبي بن كعب “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل – عليه السلام – فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال: “سل الله معافاته ومعونته فإن أمتي لا تطيق ذلك”. ثم أتاه الثانية على حرفين، فقال له مثل ذلك، ثم أتاه الثالثة بثلاثة، فقال له مثل ذلك، ثم أتاه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا” أخرجه أبو داود (١٤٧٨) وأخرجه مسلم (٨٢١).

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلبيته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؟ فقال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله، اقرأ يا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها، فقال: كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه” أخرجه البخاري (٦٩٣٦)، ومسلم (٨١٨).

عن ابن قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو: أن رجلا قرأ آية من القرآن فقال له عمرو: إنما هي كذا وكذا. فذكر ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: “إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فأي ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا فيه” ابن حجر العسقلاني، فتح الباري لابن حجر (٨/٦٤٢).

وفي لفظ لابن مسعود: فمن قرأ على حرف منها فلا يتحول إلى غيره رغبة عنه (أخرجه الطبراني (١٠/١٨٢).

وفي لفظ لأبي بكرة: كل شاف كاف ما لم يختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب. وهو كقولك: هلم وتعال وأقبل وأسرع واذهب واعمل (الهيثمي، مجمع الزوائد (٧/١٥٤)..

وفي لفظ لعمرو بن العاص: فأي ذلك قرأتم فقد أصبتم، ولا تماروا فيه فإن المراء فيه كفر (خرجه أحمد (١٧٨٢١)والبيهقي في شعب الإيمان (٢٢٦٦).

من خلال قراءتنا للنصوص الواردة في الأحرف السبعة يظهر لنا ما يلي:

  1. تواتر نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف، وأنها استخدمت عمليا في حيا النبي صلى الله عليه، حيث تخاصم الصحابة على كيفية النطق بالحروف القرآنية، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفصل بينهم بالموافقة والتقويم.
  2. كون الأحرف السبعة تخفيفا على الأمة في أداء اللفظ القرآني استجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف على أمته.
  3. تساوي الأحرف السبعة في الصحة والإصابة والفضل وحرمة الرغبة عن بعضهما أو التركيب والخلط فيما بينها.

ثانيا: المقصود بالأحرف السبعة ومقاصد إنزال القرآن بها:

قال الحافظ أبو عمرو الداني: معنى الأحرف التي أشار إليها النبي – صلى الله عليه وسلم – هاهنا يتوجه إلى وجهين: أحدهما: أن يعني أن القرآن أنزل على سبعة أوجه من اللغات، لأن الأحرف جمع حرف في القليل كفلس وأفلس، والحرف قد يراد به الوجه بدليل قوله تعالى: ﴿ومن الناس من يعبد الله على حرف ﴾ الآية، فالمراد بالحرف هنا الوجه، أي على النعمة والخير وإجابة السؤال والعافية…. فلهذا سمى النبي – صلى الله عليه وسلم – هذه الأوجه المختلفة من القراءات والمتغايرة من اللغات أحرفاً، على معنى أن كل شيء منها وجه.

والوجه الثاني: أن يكون سمى القراءات أحرفاً على طريق السعة كعادة العرب في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه، وما قاربه وجاوره وكان كسبب منه، وتعلق به ضرباً من التعلق، كتسميتهم الجملة باسم البعض منها، فلذلك سمى النبي – صلى الله عليه وسلم – القراءة حرفاً وإن كانت كلاما كثيراً، من أجل أن منها حرفاً قد غير نظمه أو كسر أو قلب إلى غيره أو أميل أو زيد أو نقص منه على ما جاء في المختلف فيه من القرآن…. (الإمام الداني جامع البيان في القراءات السبع 1/107، 108 بتصرف).

قال الإمام ابن الجزري:

وكلا الوجهين محتمل، إلا أن الأول محتمل احتمالا قوياً في قوله – صلى الله عليه وسلم – “سبعة أحرف” أي سبعة أوجه وأنحاء. والثاني محتمل احتمالا قوياً في قول عمر رضي الله عنه “سمعت هشاما يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -“، أي على قراءات كثيرة (ابن الجزري نشر القراءات العشر 1/154).

مقاصد نزول القرآن بالأحرف السبعة والحكمة منه:

  1. التخفيف عن الأمة والتيسير عليها.
  2. إظهار فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم.
  3. بيان إعجاز القرآن للفطرة اللغوية عند العرب.
  4. الدلالة على حفظ كتاب الله سبحانه من التبديل والتحريف.
  5. تعدد استنباط الأحكام الشرعية.
  6. دلالة قاطعة على أن القرآن الكريم ليس من قول البشر، إذ إن الاختلاف فيه لم يؤد إلى تناقض أو تضاد.

ثالثاا: علاقة القراءات بالأحرف السبعة:

يدور الخلاف بين العلماء حول كون الأحرف السبعة كلها موجودة محفوظة أم إن بعضها هو الموجود على آراء ثلاثة، ولكن الحد المتفق فيه بين العلماء بقاء شيء من الأحرف السبعة وأنها أصل الاختلاف بين القراءات، فمن قائل بأن القراءات متضمنة لجميع الأحرف السبعة، وقائل بأن القراءات مشتملة على بعض من الأحرف السبعة، وآخر يرى بأن القراءات محتوية على حرف واحد فقط، ولكل وجهة هو موليها وحجة يعتمد عليها، ولكن ما خلص الباحث إليه بعد  البحث والنقاش هو في النقاط التالية:

  • أن الأحرف السبعة المنزلة من الله تعالى هي مصدر القراءات.
  • أن القراءات هي ما نسب من الأحرف السبعة إلى قارئ من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
  • أن المنسوب من الأحرف السبعة إلى قارئ قد تثبت نسبته وقد لا تثبت بشروط وضوابط.
  • إن القراءات الصحيحة المقبولة ما استوفي الشروط والضوابط، والقراءات الشاذة المردودة ما لم يستوف الشروط والضوابط.

ولعلماء القراءات ضابط مشهور يزنون به الروايات الواردة في القراءات فيقول: كل قراءة وافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديرا ووافقت العربية ولو بوجه وصح إسنادها ولو كان عمن فوق العشرة من القراء فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن (مناهل العرفان في علوم القرآن (1/ 418).

وفي الحلقة الثالثة من هذه المقالات نقف على مقاصد الشريعة في تعدد القراءات عرضا وشرحا وتحليلا وتمثيلا وملاحظات ومناقشات، سائلين الله تعالى أن يتم علينا نعمه، ونسأله التوفيق والسداد، والعافية والرشاد.

Share:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn