مقاصد الشريعة في تعدد القراءات القرآنية (الحلقة الأولى)

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه، وبعد:

فإن القرآن الكريم مصدر شريعة ورشاد، ومصباح هداية وسداد، ومشكاة رحمة ووداد، ونبراس رفعة ورياد، منه تتدفق المعارف والأفهام، وتتفتق العلوم والأحكام، وتندفع به الظنون والأوهام، ويحوي مقاصد الشرائع وفوائدها، ويحمل حكم الشعائر وفرائدها، ويجمع أصول المسائل وشرائدها.

فأدرك الرعيل الأول هذه المفاهيم، فشمروا عن ساعد الجد والاجتهاد، وبذلوا في سبيل تحصيل القرآن الكريم النفس والنفيس، حفظا ومعنى وكتابة ونقلا، حتى صاروا نموذجا عمليا، وسلوكا تطبيقيا، لكل ما ورد من النصوص في الترغيب على أخذ القرآن الكريم وتلقيه، وحفظ ألفاظه وإدراك معانية، فبلغ حرص الواحد منهم أن يصلي بكامل القرآن في ركعة، يقف عند كل آية متدبرا لا لاهيا، وأن يسافر الشهر ليسأل عن معنى آية واحدة أشكل عليه، ودون ذلك كثير ليس المقام مقام سرده وذكره.

ثم إن العلوم قد تشعبت، والمعارف قد تخصصت، وكانت الحاجة هي التي تدعو إلى ظهور الفنون وتنوعها، وكل علوم الشريعة وإن تفرعت فهي في الأساس مستمدة من الكتاب العزيز، وللكتاب علوم خادمة له لا يستغنى عنها في الوصول إلى قعره، والخوض في بحره، ومنها علوم التفسير ومناهجه، وعلوم الفقه وأصوله، وعلوم اللغة وآدابها (د. أبوبكر محمد معلم حسن الخليفة: بغية الطالب في علوم القرآن ط4: ص:24)، لإدراك مقاصد الشريعة من خلال فهم النص على المستويين: الأول: مقاصد الكلام أو الخطاب، الثاني: مقاصد الأحكام (عمر محمد معلم حسن: مختصر كتاب محاضرات في مقاصد الشريعة للدكتور أحمد الريسوني، مقال منشور على موقع مركز المقاصد للبحوث والدراسات).

مدخل:

وجدير بمن يكتب عن مقاصد القرآن أن يعرض لتعريف المقاصد، وذكر الكلي منها:

مقاصد الشريعة: هي الحِكَم التي مِنْ أجل تحقيقها ولإبرازها في الوجود خَلَقَ اللّٰه تعالى الخَلْق، وبعث الرسل، وأنزل الشرائع وكلّف العُقلاء بالعمل أو التَرْك، كما يُراد بها : مصالحُ المكلّفين العاجلة والآجلة الّتي شُرعت الأحكام مِن أجلِ تحقيقها.

ومقاصد الشارع أو مقاصد الشريعة والمقاصد الشرعية كلها عبارات تستعمل بمعنى واحد، ويمكن حصر المراد منها بالآتي :

  1. نفي الضرر ورفعهِ وقطعهِ.
  2. الكليات الشرعية الخمس: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال.
  3. العلل الجزئية للأحكام الفقهية.
  4. مطلق المصلحة سواء أكانت هذه المصلحة جلباً لمنفعة أم درءا لمفسدة.

وقد أثر فيه الكثير من العلماء القدماء والمحدثين من أمثال الإمام الجويني في كتابيه البرهان والورقات وتابعه في ذلك تلميذه الغزالي في كتابه المستصفى في علم الأصول ومن المحدثين الشيخ الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي وأحمد الريسوني (مستفاد من: د. محمد شيخ أحمد محمد: المدخللدراسة الشريعة الإسلامية ص: 53 – 62، وموسوعة ويكيبيديا الإلكنرونية).

توطئة:

وعلاقة موضوعنا بهذه المقاصد بالاعتبارات التالية: فالرخصة بقراءة القرآن الكريم بأكثر من كيفية نفي للضرر ورفع للمشقة، وهي حفظ للدين إذ في تيسير حفظ القرآن الكريم حفظ المصدر الأول للشريعة، وفيه تعليل لحكم القراءة بالقراءات وبيان المقبول منها والمردود، وما تصح الصلاة به وما لا تصح، وهي جلب لمنفعة حيث سهّلت الحفظ على الكبير والصغير والعجوز، ودرء لمفسدة حتى لا تستأثر أهل لهجة أو لغة بتلاوة القرآن بلغتهم فيتباهوا على الناس ويسخروا منهم.

وسوف نتناول في مقالنا هذا مقاصد الشريعة في تعدد القراءات القرآنية على حلقات عدة هذه أولاها، معتمدين في ذلك على نصوص الكتاب والسنة، وعلى أقوال علماء الأمة، متخيرين بين دررهم، ومنتقين من نوادرهم، مجتهدين في عزو المعلومة، ومخلصين في نقل الفائدة، مع الحرص على تبسيط العبارة، وتقريب الإشارة، راكبين طريق السهل، وناطقين بلسان الجزل.

والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط.

تعريف القرآن الكريم:

والقرآن الكريم كلام الله -تعالى- المنزل على نبينا  محمد صلى الله عليه وسلم المعجز في لفظه ومعناه المنقول بالتواتر، المتعبّد بتلاوته (د. أبوبكر محمد معلم حسن (الخليفة) بغية الطالب في علوم القرآن ط: 4، ص: 25).

تاريخ نزول القرآن الكريم وجمعه:

بدأ نزول القرآن الكريم منجما في مكة واستمر في المدينة المنورة، وجموع ما كان ينزل فيه من السنوات ثلاث وعشرون، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتابا للوحي أوصلها بعضهم إلى أربعين، حرصا منه صلى الله عليه وسلم في حفظ أمانة السماء ليُكتب أمام عينيه بأيدي مَن وثق فيهم وشرّفهم بالاختيار، ولم تكن أدوات الكتابة متوفرة ولا متيسرة وإنما كانوا يكتبون فيما وجدوا من العظام والرقاع والجريد ونحوه.

وبعد أن تولى أبوبكر الصديق رضي الله عنه أمر المسلمين واندلعت حروب الردة، وحصدت أرواح عدد كبير من حملة القرآن الكريم وحفظته، قام الصديق بإشارة من جمع من الصحابة رضوان عليهم أجمعين بجمع القرآن الكريم بالأحرف السبعة التي نزل بها، خشية ضياع القرآن الكريم وذهابه من معلوم الناس ومحفوظهم، على ورق الكاغد.

وفي عهد عثمان ذي النورين رضي الله عنه اجتمع في ميادين الجهاد ضد أعداء الإسلام جيوش الأمصار ممن أخذوا على الصحابة وكبار التابعين شتى الحروف ومختلف القراءات، فأنكر بعضهم قراءة بعض حتى كادوا يتشاجرون ويتقاتلون، فبادر حذيفة بن اليمان إلى إخطار الخليفة عثمان بخطورة القادم من الخلاف القائم، فوجّه عثمان رضي الله عنه خوفا من الفتنة وسدا لبابها، إلى كتابة نسخ من القرآن على ما صح وتواتر من القراءات في زمنهم، والراجح أنهم لم يلغوا شيئا صحت قرآنيته، ولهذا شواهده وأدلته، وليس هنا مقام بسطه وشرحه (انظر الإمام السيوطي: الإتقان النوع الثامن عشر، ص:125).

ولله در الإمام الشاطبي رضي الله عنه إذ لخص المشهد وروى القصة في مقدمة منظومته عقيلة أتراب القصائد فقال:

وَلَـمْ يَزَلْ حِفْظُهُ فى الصَّحابَةِ فى عُلاَ حَياةِ رسُولِ اللهِ مُبْتَدِرَا

وكُلَّ عامٍ على جبريلَ يَعْرِضُهُ وقيلَ آخرَ عامٍ عرْضَتَيْنِ قَرَا

إنَّ اليمامةَ أهْوَاها مُسَيْلِمَةُ الْــــــكذَّابُ فى زَمَنِ الصِّديقِ إذْخَسِرَا

وبعدَ بأْسٍ شديدٍ حانَ مصْرَعُهُ وكان بأْساً على القُرَّاءِ مُسْتَعِرَا

نادى أبا بكرٍ الفاروقُ خِفْتُ على الْـ قُرَّاءِ فادَّرِكِ القُرْآنَ مُسْتَطِرَا

فأجمعوا جَمْعَهُ فى الصُّحْفِ واعتَمَدُوا زيدَ بن ثابتٍ العدْلَ الرِّضَى نَظَرَا

فقام فيه بعونِ اللهِ يجْمَعُهُ بالنُّصْحِ والجِدِّ والحَزْمِ الَّذِى بَهَرَا

مِنْ كُلِّ أوجُهِهِ حتى استتمَّ له بِالأَحْرُفِ السَّبْعَةِ العلْيا كَما اشْتَهَرا

فأمسكَ الصُّحُفَ الصِّديقُ ثم إلى الفاروقِ أسْلَمَها لما قضى العُمُرَا

وعند حفصةَ كانت بعدُ فاختلف الْ قرَّاءُ فاعتزلوا فى أحرُفٍ زُمَرَا

وكان فى بعضِ مغْزاهم مُشاهِدَهم حذيفةُ فرأى فى خُلْفِهِمْ عِبَرا

فجاءَ عثمانَ مذْعوراً فقاَ لهُ أخافُ أنْ يخلِطُوا فأدْرِكِ البَشَرا

فاستحضرَ الصُّحُفَ الاولَى التى جُمِعت وخَصَّ زيداً ومِنْ قُرَيْشِه نَفَرا.

المقاصد العامة لإنزال القرآن الكريم:

فقد لخص العلامة الطاهر بن عاشور في مقدمة تفسيره مقاصد القرآن فقال: أليس من الواجب على الآخذ من هذا الفن أن يعلم المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها – بحسب ما بلغ إليه استقراؤنا- وهي ثمانية أمور :

الأول: إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح: وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل، ويطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) هود، فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم ، وليس هو من فعل الآلهة ولكنه من آثار الإعتقاد بالآلهة .

الثاني: تهذيب الأخلاق: قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ن. وفسرت عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن . وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثت لأتمم مكارم حسن الأخلاق. وهذا المقصد قد فهمه عامة العرب بله خاصة الصحابة، وقال أبو خراش الهذلي مشيرا إلى ما دخل على العرب من أحكام الإسلام بأحسن تعبير :

فليس كعهد الدار يا أم مالك           ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل        سوى العدل شيئا فاستراح العواذل

أراد بإحاطة السلاسل بالرقاب أحكام الإسلام . والشاهد في قوله وعاد الفتى كالكهل .

الثالث: التشريع: وهو الأحكام خاصة وعامة،  قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) النساء. ولقد جمع القرآن جميع الأحكام جمعا كليا في الغالب، وجزئيا في المهم ، فقوله: تبيانا لكل شيء. وقوله : اليوم أكملت لكم دينكم. المراد بهما إكمال الكليات التي منها الأمر بالاستنباط والقياس . قال الشاطبي لأنه على اختصاره جامع والشريعة تمت بتمامه ولا يكون جامعا لتمام الدين إلا والمجموع فيه أمور كلية .

الرابع: سياسة الأمة: وهو باب عظيم في القرآن القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجماعة بقوله: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها. وقوله: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء. وقوله: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم. وقوله: وأمرهم شورى بينهم .

الخامس: القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم: قال: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وإن كنت من قبله لمن الغافلين. أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده. وللتحذير من مساويهم قال: وتبين لكم كيف فعلنا بهم. وفي خلالها تعليم ، وكنا أشرنا إليها في المقدمة الثانية .

السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين: وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار وكان ذلك مبلغ علم مخالطي العرب من أهل الكتاب، وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين وفي دعوته إلى النظر، ثم نوه بشأن الحكمة فقال: يؤتي الحكمة من يشاء ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. وهذا أوسع باب انبجست منه عيون المعارف، وانفتحت به عيون الأميين إلى العلم . وقد لحق به التنبيه المتكرر على فائدة العلم ، وذلك شيء لم يطرق أسماع العرب من قبل ، إنما قصارى علومهم أمور تجريبية ، وكان حكماؤهم أفرادا اختصوا بفرط ذكاء تضم إليه تجربة وهم العرفاء فجاء القرآن بقوله: وما يعقلها إلا العالمون، وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( وقال ): ن والقلم. فنبه إلى مزية الكتابة .

السابع: المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير، وهذا يجمع جميع آيات الوعد والوعيد، وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين، وهذا باب الترغيب والترهيب .

الثامن: الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول؛ إذ التصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي، والقرآن جمع كونه معجزة بلفظه ومتحدي لأجله بمعناه والتحدي وقع فيه، قل فأتوا بسورة مثله. ولمعرفة أسباب النزول مدخل في ظهور مقتضى الحال ووضوحه …(الإمام ابن عاشور : التحرير والتنوير ج1: ص: 39 -41)اهـ

وفي الحلقة الثانية من مقدمة مقال: مقاصد الشريعة في تعدد القراءات القرآنية، نتناول بإيجاز الموضوعات الثلاثة التالية:

  1. نزول القرآن على سبعة أحرف ومعناه:
  2. القراءات القرآنية: المتواترة والشاذة.
  3. علاقة القراءات بالأحرف السبعة.

على أن ننطلق في الحلقة الثالثة في محاور موضوع مقاصد الشريعة في تعدد القراءات القرآنية، كل مقصد في حلقة.

نسأل السلامة والتوفيق والرشد والسداد، والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم.

Share:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn