واقع التعليم العالي في الصومال

#الدراسة:
من المعتاد وجود لافتات بأحجام ومقاييس وتصميمات هندسية متفاوتة، تحمل أسماء وشعارات ومستويات تعليمية متباينة، توجد تلك اللافتات على مداخل وشوارع وسكك بل وأزقة المدن الصومالية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة بل والصغيرة جدا.
يجاري هذا التوسع الملحوظ في التعليم العالي والتمدد الكمي في مؤسساته، تأرجح كفتي الميزان بين السلب والإيجاب قبل أن يترجّح أحدهما على الآخر، وتظل الحقيقة التى لا تغيب عن أحد أن الدقة والجودة تكون على قدر الكثرة والقلة.
ولكن التساؤل القائم هو: هل التعليم العالي صديق حميم للبيئة والمجتمع منهجيا ولغويا وثقافيا؟ أم هو أخ كريم وابن أخ كريم نشأ في حضن المجتمع وهو لحمة لا تنفصم عنه؟.
في هذه الدراسة أعرض جانبا من واقع التعليم العالي في الصومال، لأرسم خطوطا عريضة ورؤس أقلام تكون منطلقا طبيعيا للباحثين والكاتبين، يستلهمون منها فكرتهم المبدئية، ويستمدون منها مادتهم العلمية، وتركز الدراسة على مستويات التعليم العالي ومناهجه.

المحور الأول:

مستويات التعليم العالي

أولا: دبلوم فوق الثانوي: تخصص معظم الجامعات الصومالية إدراة للتعليم فوق الثانوي ودون الجامعي (الدبلوم الوسيط) وهناك معاهد متخصصة تقوم بتقديم الدبلومات الوسيطة.

يلجأ الطلاب باختلاف ظروفهم وأهدافهم إلى هذا المستوى من التعليم: بعضهم للتقوية في مواد كان ضعيفا فيها في امتحان الشهادة الثانوية، وبعضهم لتغيير مساره من علمي إلى أدبي أو العكس، والبعض الآخر لعجزه المالي عن الانتساب إلى كلية أحلامه، وخوفا من الانقطاع الدراسي يحتفظ بانتمائه للحقل التعليمي، من خلال مستوى مناسب لقدرته المالية انتظارا للفرصة المواتية لتحقيق هدفه في الالحاق بالكلية التي يحلم بها.
ثانيا: بكالوريوس: ليس هناك إحصاءات رسمية بعدد الجامعات والكليات الجامعية والأكاديميات في الصومال والتي تمنح شهادة الليسانس (البكالوريوس) ولكنها حوالى خمسين مؤسسة، معظمها في العاصمة مقديشو حيث البقية موزعة على الولايات.
حاول بعض الأشخاص بجهودهم الفردية، وبعض المؤسساتية الإعلامية والإذاعات، إحصاء عدد الجامعات، ولكن تظل هذه المحاولات موعودة بالفشل إذ إن روتين الصومال شهود ظهور لافتة جديدة، أوسماع إعلان جديد لافتتاح جامعة جديدة تنضم إلى قائمة الجامعات الصومالية، ما يشتت على المسجل العدد الذي أحصاه من المؤسسات، ومما يعقد الأمر أكثر اختفاء جامعات فجأة من الساحة.

ومما يؤكد على صعوبه النجاح في إجراء إحصاء دقيق لعدد الجامعات، سرعة التوسع في إنشاء الجامعات، حيث كان عدد الجامعات 17 جامعة عام 2011م، كما ذكر الزميل الأستاذ عبد الفتاح نور أشكر في مقال نُشر على الجزيرة نت 2011م بعنوان الجامعات الأهلية في الصومال إنجازات وعقبات.

أكاد أجزم بأن كل ولاية من ولايات الجمهورية الفيدرالية الصومالية توجد فيها جامعة باسم الولاية، ثم جامعات بأسماء بعض المدن فيها، كما توجد فروع لجامعات وافدة، مراكزها في دول أخرى، وهذا وحده يكفي لأن يربو العدد على الخمسين.

ثالثا: ماجستير: بعد الكم الهائل من خريجي الجامعات وتدفقهم على المجتمع دفعات تلو الأخرى، دعت الحاجة إلى التفكير في الترقي بالمستويات الأكاديمية، خاصة أن السفر خارج البلد للتحصيل العلمي يمثل عقبة كؤودا أمام الخريجين، والذين معظمهم تتعلق بهم مهام أسرية وإدارية ومرتبطين بأعمال يصعب عليهم مغادرتها.

وقد نتج من هذا التفكير التسليم بضرورة بدء التنفيذ العملي لإنشاء دراسات عليا، وفعلا تم إنجاز ذلك من قبل بعض المؤسسات، بطريقتين مختلفتين:
أولاهما: تعاقد جامعات محلية مع جامعات في بلدان أخرى لتقديم برنامج دراسة الماجستير ومنح شهادتها للطلاب تحت إدارة الجامعة المتعاقدة وتنفيذها بالكوادر المتوفرة لها، على أن تحتفظ الجامعة الأخرى بحق الإشراف والتدقيق في تنفيذ الخطط الدراسية كما رسمت (وهذا النوع من برنامج الدراسات العليا وجد قبولا ورواجا عند المهتمين بالدراسات العليا، وثماره الظاهرة للعيان دليل عملي لنجاحه).

أخراهما: أن تقوم الجامعة بتقديم برنامج الدراسات العليا الماجستير بمنهجها الخاص وبكوادرها وتحت إشرافها وإدارتها، ومن ثم أن تمنح شهادة باسمها للطالب (وهذا النوع من التعليم العالي لا يزال قيد التنفيذ في بعض الجامعات الصومالية، ولم يخرج منه دفعة ليعلم مدى نجاحه من فشله).
لا توجد معاهد ومراكز تخصصية تعنى بالبحوث الأكاديمية في برامج الدراسات العليا، وهذا مرهون بنجاح تجربة برامج الدراسات العليا بالجامعات المحلية.
رابعا: دكتوراه: لم تبدأ عملية تقديم كورسات الدكتوراه، ولا برنامج تحضير رسائلها محليا، ولا يزال الوقت مبكرا للبحث في هذا الموضوع.
ولا شك أن شعور أصحاب الهمة العالية من حملة شهادات الماجستير، بدأ يتجه نحو التفكير في البحث عن بديل لركوب أمواج الخطر، وتكبد المسار الوعر لطلب مستوى أعلى وشهادة كبرى.وما يجيش في صدور العامة من المثقفين هو أن استكمال جميع مراحل التعليم في بيئة واحدة وعلى وتيرة واحدة يمكن أن يكون عيبا ونقصا أكاديميا.

المحور الثاني:

مناهج التعليم العالي
يقول الدكتور عبد الله الصغير رئيس جامعة الإمام الشافعي في مقديشو: “عند الحديث عن التباين بين المناهج فإنه متوجه نحو مناهج التعليم العام، أما التعليم العالي فيتلقى الطالب نظريات علمية في مجال تخصصه، مع مراعاة نوع التخصص في بعض المواد، ففي قسم التاريخ مثلا يلاحظ دراسة تاريخ البلد الذي يتعلم فيه، فإن طالب التاريخ في الصومال يجب أن يدرس مواد التاريخ الوطني للصومال، ويظل القدر المشترك من المناهج في التعليم العالي أكبر من القدر المتفاوت فيه، لأن النظريات العلمية لا تختلف من مكان إلى آخر”.
تتفاوت المؤسسات الأكاديمية في الصومال في الاهتمام بالمناهج وتطويرها وتدقيقها، ويؤثر في الأمر ثلاث أمور:
1. الوعي بأهمية المناهج: إن الثقافة العامة لدى المواطن البسيط أحيانا تنداح على النخبة، وتنسحب عليهم، فتتأثر شرائح المجتمع ببعضها ليؤدي ذلك إلى انصهار أيدلوجي ومعرفي وثقافي كبير.

وقد أظهر تحليل نتائج الاستبيان الذي استهدف 16 كلهم أساتذة جامعات وإداريين أكاديميين وتربويين متخصصين بأن مناهج جامعات الصومال مأخوذة من جامعات أخرى بدون أدنى مراجعة أو تطوير أو تكييف مع بيئة التعليم في الصومال بنسبة: 37.5%. ومثل هذه النسبة وهي: 37.5% رأت بأن المناهج تخضع لمراجعة بسيطة لا ترقى إلى المستوى المطلوب.
في حين أن نسبة 25% ترى أن مناهج الجامعات تم أخذها فعلا من جامعات أخرى ولكن بمراجعة وتدقيق من قبل أكاديميين وتربويين ذوي خبرة بالبيئة الصومالية وما يلزمها من مناهج تعليمية.

ويخلص من هذا أن نسبة 62.5% من العينة المستهدفة ترى بأن مناهج الجامعات الصومالية وإن كانت مأخوذة من جامعات أجنبية إلا أن الكوادر الصومالية استطاعت تسخير تلك المناهج وتذليلها لتناسب المتلقي الصومالي.
وقد بدأ الوعي بأهمية المناهج الدراسية ينتشر بين العاملين في الحقل الأكاديمي، وهو في طريقه إلى المجتمع، ويظل صدى هذا الحديث رجعا بين المثقفين والأكاديميين حتى يحين أوان كسره للجدران.

يقول الأستاذ سلطان عبد الله(أستاذ جامعي): “أصبح التركيز على وضع مناهج ببصمات صومالية متناسبة مع البيئة الصومالية أمرا ضروريا لا محيد منه”، ويقول الأستاذ عبد الناصر معلم (أستاذ جامعي) “التخصصات العلمية أخذت مناهجها حرفيا من جامعات أجنبية صورة طبق الأصل، ولكن بعض التخصصات الأدبية هي التي تراجع المؤسسات مناهجها”، ويقول البروفيسور/ عبد القادر شيخ أحمد أزهري (أستاذ جامعي وإداري أكاديمي): “إن أي مقارنة للتعليم العالي في الصومال مع غيره في الدول الأخرى لا تعبر عن الحقيقة إلا إذا أخذنا في الاعتبار الظروف القاسية التي تبذل مؤسسات التعليم الصومالية جهودها فيها”.
2. القدرة الأكاديمية لدى المؤسسة: تقول أستاذة جامعية: “لكي نرفع مستوى التعليم العالي فلا بد من سنّ لائحة تنظم التعليم العالي” لتحديد مواصفات الجامعة، وشروط أساتذتها، وقيود الموظفين والعاملين فيها.

ولا شك أن قدرة مؤسسة ما مرهونة بقدرة وكفاءة المنتمين إليها، من مهنيين وفنيين وإداريين، ومدى العلاقة بينهم، وتكشف نتائج الاستبيان أن نسبة 56.25% يرون بأن أساتذة الجامعات من حملة البكالوريوس، في حين ترى نسبة 81.25% أن أساتذة الجامعات من حملة الماجستير، في الوقت الذي ترى فيه نسبة 31.25% فقط بأن معظم أساتذة الجامعات من حملة الدكتوراه.
بصرف النظر عن المؤهلات الأكاديمية، فإن المهنية والكفاءة اللازمة لأستاذ جامعي لا تزال متأرجحة بين الوجود والعدم، فقد صرحت نسبة 37.5% بعدم تمتع الأساتذة الجامعيين بالكفاءة المطلوبة، وأكدت نسبة 43.75% بأن الأساتذة على كفاءة ومهنية تامتين.
ولكن المحير في الأمر والذي يدعو إلى القول بأن الكفاءة قليلة أو منعدمة قضيتان: الأولى: كثرة نسبة القائلين بأن معظم الأساتذة من حملة البكالوريوس والماجستير، ولا شك أن هذا مؤشر لضعف الكفاءة إلى حد ما.

الثانية: سكوت نسبة 18.75% عن مسألة كفاءة الأستاذ الجامعي ومهنيته.
يقول طالب طب بإحدى الجامعات الصومالية: “قبل الحديث عن كفاءة الأستاذ، فعلينا أن نعلم بأن هناك مقومات لا بد منها تعتبر نقاط ارتكاز للتمييز بين الكادر الكفء وغيره، فمثلا: إذا كان فهم الدرس يتوقف على وسيلة توضيحية معينة وليس لدى الجامعة تلك الوسيلة، فإن تقييمنا للأستاذ بدونها ظلم له.
فأستاذ مادة التشريح إذا لم يكن لديه مشرح، يفشل طلابه في فهم درسه، كما أن أستاذ المختبرات الطبية بعدم وجود معمل يعتبر درسه فاشلا”.
بناء على هذا التحليل فإن القدرة الأكاديمية لدى المؤسسات الصومالية في المحكّ لتثبت جدارتها مستقبلا للخوض في منافسة أكاديمية مع مؤسسات لم تعد يوجد في أروقتها مساحة لغير البروفيسورات والأساتذة الدكاترة، وتخطت الحديث عن تقييم الكوادر ونقص الوسائل بحكم الزمن والإمكانات.
3. روح المواكبة والتطوير: الإنسان مجبول بالفطرة على حب المواكبة والتطور، ولكن تختلف نسب هذا الحب من شخص إلى آخر ومن مؤسسة إلى أخرى، والسمة المشتركة بين الجامعات الصومالية وإن كانت تختلف في التنفيذ سعيها الدؤوب لتدريب كوادرها ليواكبوا المتغيرات المتسارعة في البيئة التعليمية، وتطويرهم أكاديميا لتنافس المؤسسة بهم في المحافل والمنتديات الأكاديمية.

ترى نسبة 87.5% أن المؤسسات التي ينتمون إليها تساهم في تطوير كوادرها أكاديميا، حيث رأت نسبة 12.5% بعدم مساهمة مؤسساتهم في تطوير كوادرها أكاديميا.
هذه بداية دراسة حول واقع التعليم العالي في الصومال، وهناك جوانب كثيرة جديرة بالدراسة والكتابة عنها، وسوف يستمر البحث في هذا الموضوع بإذن الله حتى نأتي على زواياه كلها، ونغطي كافة حلقاته.
وإلى ذلكم الحين، فأنا بحاجة إلى اقتراحاتكم وآرائكم وتواصلكم، وأترككم في حفظ الله وكلائه.

ملاحظة: تم نشر المقال في مجلة صناعة المستقبل الصادرة عن مركز القرن الأفريقي للدراسات.
يعاد نشرها هنا دون تعديل أو تحرير أو مراجعة.

بقلم: د. محمد معلم حسن (الخليفة)

Share:

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn